2ـ وبعد فترة الانقطاع لا تأكل بشهوة.
فالذي ينقطع عن الطعام, ثم يأكل بعد ذلك ما يشتهي, يدل علي أنه لم يستفد روحيا من فترة الانقطاع, ولم يتعلم منها الزهد والنسك..! انظر ما قاله دانيال النبي عن صومه لم أكل طعاما شهيا (دا 10:3).
وهذا يكون كمن يهدم ما يبنيه, بلا فائدة..! وليس الصوم هو أن نبني ونهدم, ثم نبني ثم نهدم, بغير قيام…!
3ـولا تترقب نهاية فترة الانقطاع, لتأكل.
إن جاء موعد الأكل, فلا تسرع إليه. وحبذا لو قاومت نفسك, ولو دقائق قليلة وانتظرت. أو أن حل موعد تناولك للطعام, قل لنفسك: نصلي بعض الوقت ثم نأكل, أو نقرأ الكتاب ونتأمل بعض الوقت ثم نأكل, ولا تتهافت علي الطعام..
الزهد الذي كان لك أثناء فترة الانقطاع, فليستمر معك بعدها. فهذه هي الفائدة الروحية التي تنالها.
اجعل روحياتك هي التي تقودك, وليس الساعة.
وادخل إلي العمق. العمق الذي في الامتناع عن الطعام.
الذي هو الارتفاع عن مستوي الأكل, وعن مستوي المادة, وعن مستوي الجسد.
وبالنسبة إلي فترة الانقطاع وموعدها, حبذا لو وصلت بك إلي الشعور بالجوع. فهذا أفيد جدا.. هنا ونحدثك عن عنصرالجوع في الصوم.
* عنصر الجوع:
كثيرون ينقطعون عن الطعام, ثم يأكلون دون أن يشعروا بالاحتياج إلي الطعام, ودون أن يصلوا إلي الشعور بالجوع, وإلي احتمال الجوع والصبر عليه وأخذ ما فيه من فوائد روحية. وقد قدم لنا الكتاب أمثلة للجوع في الصوم:
السيد المسيح صام حتي جاع, وكذلك الرسل.
قيل عن السيد المسيح له المجد في صومه الأبعيني أنه جاع أخيرا, (مت 4:2) وحسب رواية معلمنا لوقا البشير لم يأكل شيئا في تلك الأيام, ولما تمت جاع أخيرا, (لو 4:2). وذكر عن السيد المسيح أنه جاع, في مناسبة أخري, في اثنين البصخة, (مر11:12).
ولكن لعل البعض يقول: إن مستوي صوم السيد المسيح صعب علينا, فلنتحدث عن صوم البشر, وفيه أيضا عنصر الجوع.
قيل عن القديس بطرس الرسول أنه جاع كثيرا واشتهي أن يأكل, (أع 10:1). وفي حديث القديس بولس الرسول عن خدمته هو وزملائه, قال في تعب وكد, في أسهار مرارا كثيرة, في جوع وعطش, في أصوام مرارا كثيرة, (2 كو 11:27) وقال أيضا تدربت أن أشبع وأن أجوع, (في 4:12).
وقد طوب الله حالة الجو فقال:
طوباكم أيها الجياع الآن, لأنكم ستشبعون, (لو 6: 21).
وإن كان جوع لعازر المسكين قد أهله للجلوس في حضن أبينا إبراهيم, علي اعتبار أنه استوفي تعبه علي الأرض, علي الرغم من أن ذلك كان بغير إرادته, فكم بالأكثر ينال خيرا في الأبدية من قد جاع ههنا بإرداته, نسكا وزهدا, وتقربا إلي الله.
وقد درب الرب شعبه في البرية بالجوع.
وقال لهذا الشعب وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب هذه الأربعين سنة في القفر… فأذلك وأجاعك, وأطعمك لمن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك, لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان, بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان,
(تث 8: 2- 3 ).
إن الذي يهرب من عبارة أذلك وأجاعك, ستهرب منه عبارة وأطعمك المن في البرية.
علي أن بني إسرائيل تذمروا علي تدريب الجوع, فهلكوا في البرية.
أن الصوم يصل إلي كماله في الجوع واحتماله.
فإن كنت لا تجوع, فأنت لم تصل إلي عمق الصوم بعد, وأن أطلت فترة انقطاعك حتي وصلت إلي الجوع, ثم أكلت مباشرة, فأنت إذن لم تحتمل الجوع ولم تمارسه.
وبالتالي لم تنل الفوائد الروحية التي يحملها الجوع.
فما هي الفضائل الروحية التي يحملها الجوع؟
الذي يمارس الجوع يشعر بضعفه فيبعد عن الغرور والشعور بالقوة والثقة الزائدة بالنفس. وفي ضعفه تقوده مسكنة الجسد إلي مسكنة الروح.
يذل الجسد, فتذل النفس, وتشعر بحاجتها إلي قوة بسندها, فتلجأ إلي الله بالصلاة وتقول له: اسند يا رب ضعفي بقوتك الإلهية, فأنا بذاتي لا أستطيع شيئا.
صلاة الإنسان وهو جائع, صلاة أكثر عمقا.
إن الجسد الممتلئ بالطعام, لا تخرج منه صلوات ممتلئة بالروح.
ولذلك دائما تمتزج الصلاة بالصوم, ويمتزج الصوم والصلاة, وحينما يريد الناس أن يصلوا في عمق, نراهم يصومون. وهكذا صلوات الناس في أسبوع الآلام لها عمقها, وحتي القراءات كذلك حينما تقال بصوت خافت من الجوع..
إن تسجيل لحن من ألحان البصخة, خلال أسبوع الآلام, يكون له عمق, لأن الذي سجله كان صائما, وله روحيات الصوم… وتسجيل نفس اللحن في غير أيام الصوم, وصاحبه مفطر, يجعل اللحن يفقد الكثير من عمقه الروحي, وربما يتحول إلي مجرد أنغام وموسيقي.
إن الله يحب أن يشعر الإنسان بضعفه, لكيما ينسحق قلبه. والجوع يساعد علي الشعور بالضعف. ولذلك تصلح فيه الميطانيات, ولا تصلح لمن هو ممتليء بالطعام.
نصيحتي لك: إن شعرت بالجوع فلا تأكل. وإنما احتمل وخذ بركة الجوع. إن السيد المسيح صام أربعين يوما وجاع أخيرا. ولما نصحه الشيطان أن يأكل رفض أن يأكل علي الرغم من جوعه. وأعطانا بذلك درسا.. لذلك احتمل الجوع.