في العاشر من أبريل عام 1976 كانت مصر علي موعد مع حدث سياسي مهم, فقد كان الرئيس أنور السادات قد قرر العودة إلي الحياة الحزبية بعد أكثر من عقدين من التوقف وقرر نظام السادات إنشاء المنابر السياسية داخل الاتحاد الاشتراكي وهي كالآتي: منبر اليمين والذي يمثل -نظريا- التيار الليبرالي في مصر, ومنبر اليسار الذي تجمع تحت رايته كل من يتنمي فكريا لليسار المصري بمختلف تنويعاته, بالإضافة إلي منبر الوسط الذي كان يمثل التوجه الرسمي للدولة وتولي إدارته عدد من كبار المسئولين في الجهاز الإداري.
وبعد قليل تحولت المنابر إلي أحزاب سياسية وهي حزب الأحرار الاشتراكيين -هكذا كان اسمه- وحزب مصر, ثم كان الثالث هو حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي الذي تولي رئاسته الأستاذ خالد محيي الدين أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 وبطل أزمة مارس 1954 والتي تسببت في استقالة محيي الدين من القيادة بعد خلاف نشب بينه وبين رفاقه حول حتمية تطبيق الديمقراطية السياسية وهذا ما لم يره ناصر وزملاؤه مناسبا في ذلك التوقيت.
خرج محيي الدين وبدأ مسيرة نضال ديمقراطي كان أحد أهم محطاته تأسيسه مع عدد من رموز اليسار المصري لأول حزب سياسي علني في تاريخ اليسار المصري بعد تجربة الحزب الاشتراكي المصري الذي أسسه المفكر سلامة موسي وعدد من رفاقه في عشرينيات القرن الماضي والذي سرعان ما واجه تحديات فرضت عليه العمل السري.
كان اسم خالد محيي الدين قادرا علي منح ثقل محلي ودولي لأي كيان سياسي ونجح في جذب كل قامات اليسار المصري بكل تنويعاته وكافة منطلقاته الفكرية ليصبح التجمع هو بيت اليسار المصري, وحتي بعد رحيل الرمز والمؤسس ظل التجمع هكذا.
تأسس حزب التجمع ليكون حزبا حقيقيا يعبر عن الشعب المصري ويرفع رايات الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية لكن تبقي أحد أهم ملامح التجمع هو ذلك الدور الاستثنائي الذي قام به في الثقافة الوطنية والذي لا يمكن أن ينافسه حزب سياسي آخر في تاريخ مصر بالمقارنة بإمكانيات التجمع المحدودة إلي حد كبير.
انحاز التجمع منذ نشأته وحتي الآن لمفهوم الثقافة الوطنية الديمقراطية وضم في صفوفه منذ البداية غالبية رموز الفن والثقافة حيث تولي المخرج الكبير صلاح أبوسيف رئاسة أول لجنة للأدباء والفنانين ضمن التشكيلات التنظيمية للحزب وضم في عضويته كل من لطفي الخولي وميلاد حنا ويوسف شاهين وجميل راتب وفتيحة العسال ومحمد حمام وغيرهم العديد من الفنانين والمثقفين الذين لا تتسع المساحة لذكرهم.
ظل التجمع قابضا علي جمر الدفاع عن الوحدة الوطنية ليس فقط كونها أحد مقومات الدولة لكن باعتبارها قضية أمن قومي لا تقبل الحلول الوسط وأنها حق لكل من يحمل صفة مصري بغض النظر عن دينه وعرقة ولونه.
رفع التجمع شعاره الدائم مصر لكل المصريين وتحمل عواقب مواقفه الثابته والمبدئية في مواجهة كل أشكال التطرف الفكري ورفض إقحام السياسة في الدين وفي بعض الأحيان كان التجمع يقف منفردا متمسكا بقناعاته, رافضا أي موائمة أو مقايضة علي حساب سلامة الوطن وحقوق شركائه مسلميه وأقباطه.
بعد 46 عاما من تأسيس حزب التجمع, يظل منبرا للدفاع عن الثقافة الوطنية وأحد حراس الهوية المصرية.
خلال تاريخه, كان التجمع هو أكثر الأحزاب السياسية المصرية اشتباكا مع قضايا التنوير واحتضنت مقاره في كل مكان لفعاليات ومبادرات وأنشطة لدعم حرية التعبير ونتذكر أن صحيفة الأهالي الناطقة بلسان الحزب قد بادرت عام 1995 بطباعة ملحق خاص نشرت به رواية أولاد حارتنا للكاتب الكبير وجاء ذلك عقب الحادث البشع الذي تعرض له كاتب نوبل علي خلفية فتاوي غير مسئولة من جانب شيوخ الفتنة.
كما تبني التجمع كل مبادرات الوحدة الوطنية وخاض معارض شهيرة في هذا الصدد وكان لرئيسه السابق الدكتور رفعت السعيد إسهامات فكرية فارقة في هذا الصدد كما أنه الحزب الوحيد الذي يصدر مجلة شهرية تعني بالثقافة والفنون وهي أدب ونقد وهو الحزب الوحيد الذي ينظم مهرجان سينمائي سنوي يحمل اسم المخرج الكبير يوسف شاهين.
في شهر أبريل يضيئ كل محبي الوطن شمعة من عمر التجمع هي بالقطع شمعة في عمر الوطن والنضال من أجل الوحدة الوطنية والاستنارة.. كل التحية لكل قادته وأعضائه ولكل من يصنع نقطة ضوء في عتمة الدرب العسير.