منذ عامين قدمنا قصة عم إبرام, ذلك الرجل الذي غادر الصعيد, ليقع تحت سطوة القاهرة, ومنذ عام2009 قرر أن يحيا في القاهرة العظيمة, التي لم يتغير رأيي فيها, فقد أصاب من أسماها قاهرة إنها المرعبة الأليمة, المبهجة الحزينة, الآثمة البريئة وسط إيقاع المدن, ارتمي في أحضانها ليجد علاجا لزوجته المريضة, كان عمرها حينما كتبنا روايته 52عاما, أما عم إبرام فكان-آنذاك-59 عاما, وحينما قرر الأطباء ضرورة إجراء جراحة قلب مفتوح لزوجته, لجأ لإخوته الذين طالما ساندهم, ثم غادروا الصعيد إلي دول الخليج, فلم يجبه أحد, سقط العشم وسقطت معه التضحيات القديمة.
داخل منزل متهالك الجدران في إحدي المناطق العشوائية, استقرت الأسرة في مسكن بالإيجار الجديد-قيمته400جنيه شهريا, ومع تكرار الانتقال, تبخر الأثاث, فلم يعد لديهم سوي بضع قطع تندرج تحت قائمةالكراكيب وعاش عم إبرام وزوجته المريضة وخمسة أبناء وبنات, علي مساعدة أهل الخير والكنيسة.
وبعد عشر سنوات حان وقت تزويج الأبناء الكبار, فقدم عم إبرام طلب قرض من راتبه الذي يصل بالكاد إلي2000 جنيه, وتزوج الابن الأكبر, وحاله لا يسمح له بمساعدة والده, أما الابنة الكبري فتزوجت وغادرت للصعيد, لكن القرض لم يغادر واستمر عم إبرام في سداده حتي سبتمبر2021 وهو موعد خروجه بالمعاش.
انتهي سداد القرض, لكن لم يعد المرتب كما كان أبدا, وكما تتقلص كل الأشياء بالوصول إلي سن المعاش, الصحة والمعارف والمجتمع المحيط, والعلاقات والرغبة في الحياة يتقلص الراتب, فيبدو أنه من الشائع تقلص المسئوليات بعد الستين وهو عكس الواقع القاسي,فالأعباء تتزايد والأمراض تتراكم بعد الستين.
وتوالت الضربات ومن أزمة لأزمة سلم المرض زوجته لجراحة لاستبدال صمام في القلب, ومنها إلي إصابة كبدية بالغة الخطورة واستقساء, ومنها إلي سرطان ثدي اتنشر في أنحاء جسدها, لم يكن من الممكن تركها للموت بكل يسر, لايستطيع الفرد منا التخلي عن أهله لمجرد أنهم في حالة مرضية ميؤوس منها طيبا, نظل نتعلق بالأمل إلي اللحظة الأخيرة ولو من باب درء الشعوب بالذنب, هذا ما فعله الرجل, كان يحاول إنقاذ زوجته ولو بالتسول, كان يطوف علي الكنائس والمعارف يقترض من الناس حتي يوفر تكاليف الانتقال إلي معهد الأورام,ليوفر لها وجبة غذاء أو تكلفة تاكسي,فجلسات علاج الأورام مجهدة للغاية لاتحتمل المواصلات العامة.
حتي محاولات الابن الوسط في المساعدة لم تكن كافية, أنه يعمل سائق توك توك, بعد فشل والده في توفير مبلغ600 جنيه رسوم دخول امتحانات الثانوي الصناعي فراتب عم إبرام ويومية ابنه لا يوفران المعيشة والعلاج والرعاية الخاصة للمريضة, فالكنيسة تمنحة 75 جنيها للأسرة وشنطة بركة, وللزوجة المريضة يتم صرف نصف روشتة العلاج وهو أمر حتي لو كان يمثل نظاما دقيقا, لكنه لن يفلح لرعاية الحالات الخاصة.
إن 75 جنيها هو سعر كرتونة ونصف كرتونة من البيض أو نصف كيلو من اللحم, وإذا سردنا القيمة الشرائية لهذا المبلغ سوف نجد أنها لن تفي بأي من متطلبات الحياة, ثم نعود نتساءل لماذا يطوف المحتاجون علي الكنائس والمعارف بنفس الطلب؟ الرد بسيط جدا, لأن غول الغلاء التهم القيمة الشرائية للجنيه, فلم يعد يكفي لجلب وجبة فول وطعمية.
حينما جاء عم إبرام في المرة الأولي قال: كنت مستور والزمن كشفني وذلني بعت كل حاجة مفيش حاجة تاني أبيعها إخواتي إللي ضحيت علشانهم. ما بيردوش علي تليفوني, أصل الفقير ريحته وحشة, كلامه تقيل وماساة لمآساة بالتوازي وليس بالتبادل, فكل المآسي حاضرة في آن واحد, فبعد إصابة زوجته بالسرطان تزامن ذلك مع خروجه بالمعاش, مع وشاية البعض لدي من يساعدونه واتهامه بالمتاجرة بزوجته وأنها غير مريضة فلم يكلف أحد نفسه عناء الاستقصاء.
ولأننا في مجتمع يقوم علي الوشاية السماعية دون تيقن صدق الناس فيه, حدثوني فأبرزت لهم المستندات حتي بات الخجل حليفا لوجوههم التي تلاشت من فرط الإحمرار أمام بحث الحالة والأوراق الرسمية التي تفيد براتبه وأنه علي المعاش, وأوراق وفيديوهات لزوجته أثناء العلاج بالكيماوي.
وحينما لفتت نظره قال باكيا:أنا مش كداب أيوة أنا لحوح بس لأني ماعنديش حاجة تانية أعرف أعملها غير إني أشحت أيوة أشحت أحسن ما أسرق أو أنتحر, أنا ماقدرش أشتغل لإني باراعي زوجتي وبناتي وبأوفر إللي أقدر عليه, لكن مش قادر الدنيا غالية جدا لو أقدر حتي من حياتي كنت عملتها لكن حتي ده رفاهية أنا مش أدها, لأن عندي بنات لازم أربيهم, صدقوني بقي صدقوني مراتي بتموت.
بعد أسبوع من هذه الواقعة جاءتني رسالة من جملة واحدة زوجتي توفيت لم أشعر بمرارة قط مثلما التي شعرت بها في هذه الحروف القليلة, لكنني شكرت الله أنني لم أصدق وشاية الواشين, وقمت باللازم معه, فكل التفاصيل كانت علي يدي خطوة بخطوة,حتي صدور شهادة الوفاة, لكن للأسف المصدقين لايشعرون بل أنهم أحيانا يستكثرون البركة التي يرسلها الله للمحتاجين يصدقون الشائعات ثم يروجونها ليبرروا لأنفسهم تقاعسهم عن عدم التيقن من درجة عوز الحالة, للأسف أولئك يمنحون ويمنعون بكل ضمير مستريح. وها هي الزوجة رحلت ولم يرحل الاحتياج ولم يرحل الدين ولم يرحل الألم, فماذا هم فاعلون؟