بينما تستمر المعارك العسكرية بين روسيا وأوكرانيا ومعها تستمر الحرب الإعلامية والاقتصادية والسياسية بين روسيا وأمريكا والمجموعة الأوروبية, تنفجر معايير مرعبة لازدواجية المعايير التي تتداعي وتفرض نفسها في التحكم في تلك الحرب… ومعها تبرز علامات استفهام خطيرة حول منظومة القيم التي تحكم النظام الدولي وهل هي ثابتة راسخة أم أنها متغيرة يتم تطويعها طبقا لمصالح القوي العظمي في عالمنا؟… الواضح أن منظومة القيم ليست ثابتة ولا راسخة ولكنها تعتمد علي مدي توافقها مع القوي العظمي المتسيدة علي عرش السياسة العالمية ومصالحها في إطار حسم الصراعات العالمية في مجال القطب الأوحد المسيطر علي أقدار العالم.
وإذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية لها أبعاد تاريخية واستراتيجية ساهمت في انفجارها, تظل هناك أبعاد أوسع تتجاوز نطاقها الجغرافي وتكمن وراء تداعياتها وما تسفر عنه نتائجها بحيث تنبئ بأن تعيد ترسيم ملامح القطبية العالمية التي ستتحكم في قيادة عالم الغد من النواحي السياسية والاستراتيجية والعسكرية.
ومن أهم المفارقات التي تفجرت علي الساحة العالمية مع تفجر الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها مفارقة ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمة… فالمواقف المعلنة من جانب القيادة الأمريكية وتوابعها من الكتلة الأوروبية تفضح بشكل صارخ أن معايير تقييم الأفعال وتحديد ردود الأفعال لم تعد تخضع لذات القيم التي توافقت عليها الأسرة الدولية -وعلي رأسها القوة الأمريكية وتوابعها الأوروبية- منذ الحرب العالمية الثانية, بحيث أصبح من المحال تصور استمرار تلك المعايير وبحيث بات من المحتم تشكل عالم جديد تتغير فيه مواقع القوة والقيادة بناء علي ما تسفر عنه الحرب الروسية الأوكرانية… وإليكم نماذج صارخة من ازدواجية المعايير التي فضحت انهيار منظومة القيم العالمية ومولد منظومة جديدة:
** صراخ وتباكي العالم الغربي علي الاجتياح الروسي لأوكرانيا ليس سوي فضح صارخ لازدواجية المعايير بين الأزمة الكوبية إبان عام 1962 وما تلاها بعد 60 عاما في أوكرانيا… فما اعتبرته أمريكا بزعامة جون كيندي عام 1962 أنه تهديد وجودي لأمنها القومي إزاء خطط روسيا نصب قواعد صواريخ لها علي الأرض الكوبية -جنوب شرق الولايات المتحدة- فشلت في اعتبار سلوكها بالمثل في دول أوروبا الشرقية المنسلخة عن الاتحاد السوفيتي تهديدا وجوديا للأمن القومي الروسي… وأصرت رغم التحذيرات الروسية من مغبة ضم تلك الدول للمجموعة الأوروبية وبالتالي لدول حلف شمال الأطلنطي ناتوحيث انضمت عام 2004 بلغاريا- إستونيا- لاتفيا- ليتوانيا- رومانيا- سلوفاكيا- سلوفينيا, وتبعتها عام 2009 ألبانيا وكرواتيا, ثم عام 2017 الجبل الأسود, وفي عام 2020 مقدونيا الشمالية, بينما أحبطت الحرب عام 2008 انضمام جورجيا, وها هي الحرب التي نحن بصددها تحبط انضمام أوكرانيا… والحصيلة الكارثية لذلك كله تكشف ازدواجية المعايير بين كوبا 1962 وسياسات أمريكا والناتو حتي 2022.
** الانتفاضة الغربية -أمريكية وأوروبية- للقصاص من روسيا في أعقاب اجتياحها لأوكرانيا لم تراع أية معايير متعارف عليها لعدم إقحام سائر الأنشطة والمنافسات الإنسانية في السياسة, بل استحلت الزج بكل ما يمكن توظيفه لإلحاق الضرر بالخصم بغض النظر عن اعتبارات السيطرة علي انفلات الصراع… فكان أن انطلقت في تطبيق حشد من العقوبات بدءا من تجميد أرصدة البنك المركزي الروسي ووقف التعامل مع البنوك الروسية وعزلها عن منظومة سويفت المتحكمة في التجارة الخارجية وتنقل الأموال, علاوة علي سحب نشاط معظم الشركات الغربية العاملة في روسيا, ومنع تصدير المعدات الضرورية للصناعة الروسية, وتجميد أرصدة وأموال شركات وشخصيات روسية لدي البنوك الغربية, بالإضافة إلي تعليق العمل في مشروع نورد ستريم2 الخاص بخط أنابيب تصدير الغاز الروسي لأوروبا… ولم يتم الاكتفاء بذلك بل امتد الأمر إلي إغلاق المجالات الجوية الأوروبية أمام الطيران الروسي -والذي نتج عنه إجراء مماثل بإغلاق المجال الروسي أمام الطيران الأوروبي -ثم وصلت المقاطعة إلي كثير من السلوكيات المتعارضة مع الحريات وحقوق الإنسان التي طالما اعتبرتها دول المجموعة الأوروبية والناتو أيقونات تميزها, مثل وقف قناة روسيا اليوم ووكالة نوفوستي للأنباء وطرد الطلاب الروس من الجامعات الأمريكية والأوروبية, وأخيرا وصل الأمر إلي السقطة الكبري بإقحام الرياضة في الصراع عن طريق منع الروس من المشاركة في سائر المنافسات الرياضية.
** كان من أكثر ظواهر ازدواجية المعايير التي تحدث عنها العالم المقارنة بين اجتياح روسيا لأوكرانيا وما حظي به من إدانة واسعة من أمريكا ودول أوروبا ونعته بأنه هجمة متوحشة علي الديمقراطية وحقوق الإنسان, بينما لاتزال عالقة في الذاكرة الإنسانية الممارسات الهمجية المتوحشة التي اقترفتها أمريكا في أفغانستان ويوجوسلافيا والعراق والتي شملت التدمير والتطهير العرقي وفرض الأمر الواقع الذي يتوافق مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية بغض النظر عن الثوابت والطبيعة الإنسانية علي أرض الواقع.
** لا يمكن إغفال ازدواجية المعايير في واقعة إدانة العالم الغربي لإظهار لاعب كرة لفانلة يرتديها تحمل شعار فلسطين احتجاجا علي ممارسات إسرائيل في الأرض المحتلة, في مقابل غض الطرف علي شيوع ارتداء فرق الكرة لفانلات العلم الأوكراني ضمن منافساتها في المباريات والمنافسات الأوروبية في الحرب التي نحن بصددها.
** من الواضح كما قال الرئيس الروسي إن أمريكا لا تقبل أن تكون روسيا حليفا أو صديقا أو قطبا متساويا في القوة, وأن كل ما يحدث في عالمنا خلال العقود الثلاثة الماضية يفضح ازدواجية المعايير بين الادعاء بالحرص علي السلام العالمي وبين العمل علي ترسيخ وجود أمريكا كقطب أوحد في عالمنا -سواء عن استحقاق أو دون استحقاق- وبناء عليه نتج عن ذلك ما عايشناه من تحولات من شأنها إعادة تشكيل موازين القوة في عالمنا وعلي رأسها البيان الذي صدر عن القمة الروسية الصينية في 4 فبراير الماضي في بكين علي هامش دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية والذي أشار إلي إرهاصات نظام دولي جديد يبدأ في التشكل مع توافق وتعاون أكبر بين الصين وروسيا نحو إعادة توزيع القوة في العالم وتعددية الأقطاب ورفضها للقيادة الأمريكية المنفردة للعالم أو الأحادية القطبية, خاصة وأن الولايات المتحدة لم تعد لديها القدرة علي القيادة العالمية.
*** إلي هنا وبينما نتابع تداعيات الاجتياح الروسي لأوكرانيا وما سيسفر عنه من نتائج ومن إعادة تشكيل النظام العالمي… من الثابت أن النظام العالمي الذي تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية وعلي رأسه منظومة الأمم المتحدة التي كان يرجي أن تصون السلام العالمي, قد تهرأ وتداعي وفقد قدرته علي أداء دوره, وباتت الساحة العالمية مهيأة لبزوغ نظام جديد بمعايير جديدة.