كما يقول المثل الشعبي باتت حالة لبنان لا تسر عدو ولا حبيب!!.. فلبنان للمتابعين لتردي أوضاعه وللمهمومين بإنقاذه بلغ مرحلة غير مسبوقة من تهرؤ الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية, وصار من بقي فيه من أبنائه رهينة استمرار الحسابات البغيضة التي طالما فرقته… وأقول من بقي فيه لأن الواقع حزين ومؤسف, فخلال السنوات القليلة الماضية غادرت لبنان بغير رجعة شرائح متعددة من القادرين والمتعلمين ورجال الأعمال والمهنيين… باختصار تعرض لبنان لنزيف حاد في رأسماله من الطبقة الوسطي التي تمثل عماد المجتمع ومحرك الاقتصاد, تلك الطبقة التي سارعت بالخروج بعدما فقدت الأمان والاستقرار وعايشت تمزق الوطن بين صراعات التيارات السياسية التي تنتمي إلي العائلات والأحزاب والشيع والولاء لدول خارجية بعينها ولا تهتم بلبنان الوطن أو الدولة, إنما كل اهتمامها كيفية تقسيم الكعكة السياسية بموجب نظام بغيض يطلق عليه المحاصصة… فكانت النتيجة أن الطبقة الوسطي استطاعت تحويل -أو تهريب- ثرواتها قبل فوات الأوان وهربت بجلدها إلي الخارج ولم يبق في الداخل سوي اللبنانيين المغلوبين علي أمرهم والذين لا قبل لهم بالهرب يصارعون تردي أحوال المعيشة والتضخم الهائل في الأسعار مع الشح الخطير في مصادر الطاقة والاحتياجات التموينية… هؤلاء في جانب, وفي الجانب الآخر أباطرة السياسة الذين يملكون ثروات هائلة وميليشيات عسكرية -ولا تحدثني عن الجيش اللبناني الذي لا حول له ولا قوة- لايزالون منغمسين في لعبة تقسيم الكعكة والمحاصصة وتمزيق الوطن!!!
ذلك الوضع المؤلم متروك يستمر ويتردي ويستفحل منذ سنوات تسبق انفجار مرفأ بيروت في منتصف 2020- ويخطئ من يظن أن انفجار المرفأ هو المسئول عن ذلك -لكن بينما اعتقد البعض وأنا منهم أن انفجار المرفأ سيكون بمثابة هزة عنيفة للقوي اللبنانية تفيق علي أثرها وتتصدي لإنقاذ لبنان الوطن والدولة, خاب ظننا وتبددت آمالنا ولم تفلح أية جهود -حتي بقيادة فرنسا التي يرتبط بها لبنان بحبل سري لم ينقطع منذ استقلاله عن الانتداب الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي- في أن تعيدها إلي الصواب وسواء السبيل.
عدت إلي ما كتبت آنذاك وكان بتاريخ 2020/8/23 وكان تحت عنوان تعمدته لأني رأيته يجسد واقع التمزق: ل-ب-ن-ا-ن.. وحالة مخاض لميلاد لبنان.. حيث تناولت مظاهرات الشارع اللبناني التي استشرت وقتها وقلت: إنها مظاهرات الغضب والقهر ورفض الواقع وطلب التغيير الشامل, الوطن موجود في الأرض والتاريخ والانتماء ولكنه مختطف ممزق تائه بين من لا هم لهم سوي تحويله إلي كعكة يقومون بتقسيمها إلي شرائح فيما بينهم, وياليتهم يرتضون كل بنصيبه منها, لكنهم في الواقع ومنذ نحو نصف قرن لا يتوقفون عن العراك لإعادة تقطيع الكعكة وإعادة توزيع الأنصبة, أدواتهم في ذلك المذهبية والطائفية ومناطق النفوذ العائلية والتقاسيم الجغرافية والميليشيات العسكرية… فهل يبقي بعد ذلك الوطن؟.. وهل تصمد أمام ذلك الدولة؟!!
وبينما كنت أراهن علي أن قسوة التجربة ستقود لبنان إلي حالة مخاض يولد منها لبنان جديد عفي ينتقل من حالة الشتات إلي حالة الوطن والدولة, أخذت أرقب تطور الأوضاع, لكن لم يمض شهر علي ما كتبت حتي خاب ظني مجددا ووجدتني أسير الإحباط الذي دعاني لأكتب في 2020/9/13 تحت عنوان: ل-ب-ن-ا-ن مايزال علي قديمه.. وسجلت أن لبنان علي أثر الانفجار ومظاهرات الشارع دخل في شبه فراغ سياسي بعد استقالة الحكومة وتفكك البرلمان لخروج أكثر من كتلة سياسية منه, والغريب أن ذلك كان مدعاة للأمل في إعادة تشكيل الخريطة السياسية لتحقيق التوازن بين أماني الشعب اللبناني في صياغة دستور دولة المواطنة وبين الانصياع لمعايير دولة المحاصصة… لكن تبدد الأمل في أول اختبار عندما خضع اختيار شخص رئيس الحكومة للكثير من الشد والجذب والتأرجح والتأخير إلي أن استوفي في النهاية خضوعه لموافقة سائر الكتل السياسية ورؤساء التيارات والشيع.. بل إن وضع المحاصصة امتد بعد ذلك إلي توزيع سائر مناصب الدولة علي أساس طائفي شمل الوزراء والمناصب العسكرية والدوائر الانتخابية والقضاة ومديري الدوائر الحكومية والسفراء وأساتذة الجامعات… إلي هذا الحد المخيف استمر السرطان الطائفي يستشري في جسد الدولة اللبنانية مما يسحب منها مقومات الدولة وتحل محلها المعايير القبلية… لذلك رأيت وقتها أن لبنان لايزال علي قديمه.
والآن بعد نحو عام ونصف العام علي سبتمبر 2020 لا تلوح في الأفق أية بوادر تدعو للتفاؤل نحو إقالة لبنان من عثرته السياسية أو من نكبته الاقتصادية والمجتمعية… صحيح أن الأنباء تتحدث عن خطط للبنك الدولي ومشاركة بعض الدول وعلي رأسها مصر في ضخ دماء جديدة في قطاع الكهرباء والطاقة, لكن هل تنجح تلك الخطط في إخراج لبنان وشعبه الباقي فيه!! من غرفة العناية المركزة؟