عندما يخيم الضباب علي المشهد نلجأ إلي بوصلة لتهدينا نحو شواطئ النجاة.. ونستلهم من تجربتها قدرتنا علي اكتشاف الواقع وقراءته.
هكذا يبدو هاني شنودة في الموسيقي المصرية.. تجربة فريدة ومختلفة.. تحمل في داخلها عوامل نجاحها.. فهو دراس الموسيقي والعالم بصادر قوتها والمتمرد علي السائد والمستقر والرتيب.. لكنه تمرد المحب ورفض العاشق للتجديد والباحث عن نغمة جديدة بين أوتار اللحن المصري.
في منتصف سبعينيات القرن العشرين كانت مصر في مرحلة تغيير شامل, وظهرت ملامح ذلك التغيير منذ منتصف السبعينات, لم يقف عند حد المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية, بل امتد للفنون, فهي مرآة المجتمع, ومعبر عما يشهده من تطورات أو انتكاسات, وتعبر الفنون عن أوضاع مجتمعية وتكشف وتستشرف المتغيرات التي قد تطرأ علي تلك الأوضاع والعلاقات.
قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامين أي في عام 1943 ولد هاني شنودة في مدينة طنطا بوسط الدلتا لأسرة متوسطة, حيث كان الأب يسعي لأن يصبح الفتي هاني طبيبا, لكنه اختار الموسيقي مبكرا, ويروي الموسيقار الكبير أن والدته كانت تجيد العزف علي عدد من الآلات الموسيقية مثل العود والبيانو, وكانت تعزف وتغني لأم كلثوم بين أفراد الأسرة.
بعد الثانوية العامة التحق شنودة بكلية الموسيقي التي تخرج فيها, ثم التحق بعد ذلك بالمعهد العالي للموسيقي الكونسرفاتوار, وكان قد بدأ يعزف علي البيانو منذ كان تلميذا مع فرقة صغيرة قدمت عروضها الموسيقية في نادي طنطا الرياضي, حيث تلقي أول أجر كعازف وهو دون السادسة عشرة.
وقد أسس هاني شنودة فرقته المصريين في لحظة شديدة الارتباك, سواء علي الصعيد السياسي حيث مصر تبرم اتفاقية كامب ديفيد, وما أحدثته في الصعيد العربي من فرقة وتشرذم, كما أنه لم يكن قد مضي وقت طويل علي انتفاضة الخبز بما أحدثته من توتر وأزمات علي الصعيد المحلي, كذلك كانت نتائج الانفتاح الاقتصادي قد بدأت تظهر بقوة علي الفن المصري -وخاصة الموسيقي- ورغم وجود قامات فنية في ذلك الوقت, إلا أن التيار كان جارفا وبقوة, وظهرت موجة أغنيات أطلق عليها فيما بعد أغاني الميكروباص, وقاد كل من أحمد عدوية وكتكوت الأمير ورفاقهما موجة جديدة في الغناء المصري, ويؤكد هاني شنودة في لقاء تلفزيوني له أن الأديب الكبير نجيب محفوظ هو الذي أوعز اليه بفكرة تكوين فريق موسيقي, وذلك خلال زيارة له للتعرف علي ما يقدمه من موسيقي جديدة, ويؤكد في مذكراته التي صدرت تحت عنوان مذكراتي حيث يروي شنودة: دار الحوار بين أخذ وعطاء, وسؤال وجواب, حتي توقف نجيب محفوظ وسألني: ليه يا هاني مابتلعبوش أغاني عربي من تأليفكم؟ رددت عليه: الأغنية بتاعتنا مقدمتها تساوي ثلاث أغان من الأغنية الغربية, أغنياتنا الكلاسيكية تبدأ بتانجو أو فالص ثم تتحول إلي المقسوم الشرقي, والرقص الشرقي عيبة عند الشباب والرجال, أما الرقص الغربي فهو موضة, في هذه اللحظة نظر إلي بابتسامة ساخرة, وقال: لا تستبدل بشهوة العمل شهوة الكلام, اعمل الأغنية إللي أنت شايفها صح بدون حجج أو أعذار. لم أتوقف أمام الكلام طويلا, كنت سعيدا بما أفعل, وأكسب جيدا, ووصل الأمر إلي أن طلب مني عبدالحليم حافظ أن أكون له فرقة حديثة يضمها إلي الفرقة التي تعزف أغنياته, وهذه قصة أخري متخمة بتفاصيل عديدة وقعت في وقت قصير عندما أنهي موت حليم التجربة مبكرا, ولكن كلمات نجيب محفوظ ظلت محفورة في ذاكرتي. لماذا لا أكون فرقة مصرية تعزف الموسيقي بشكلها الحديث الذي يقدمه العالم وتقدم كلماتنا المصرية ولغتنا الدارجة؟
الموسيقي بالنسبة إلي هي الترجمة التي تنقل ثقافتنا إلي العالم كي ينظر إلينا, لهذا دائما أقول إن الموسيقي المصرية تنقسم إلي مرحلتين ق.م أي ما قبل ميلاد فرقة المصريين وب.م أي ما بعد ميلاد فرقة المصريين.
في عام 1977 أسس شنودة الفرقة والتي ضمت إلي جانبه إيمان يونس والتي استبدلت فيما بعد بـمني عزيز ومحمد هندي الذي غير اسمه إلي عمر جوهر قبل أن يتجه للغناء الفردي في الثمانينيات ويصير اسمه عمر فتحي.
وفي توقيت قريب كان شنودة قد لعب دورا مهما في تدشين مشروع محمد منير, وشارك في الصياغة الموسيقية لألبوم محمد منير الأول علموني عنيكي ووضع بعض ألحان الألبوم وقام بتوزيع كل الأغنيات, قدمت أغنيات المصريين موضوعات معاصرة خلال أحد عشر عاما أنتجت ستة ألبومات.
كانت تجربة شنودة مع صياغة مشروع محمد منير من جهة وفي تأسيس إحدي أهم الفرق الموسيقية المصريين من جهة أخري كافية لأن تضعه في مكانة موسيقية استثنائية في تاريخنا المعاصر.
كما أن بصماته في مجال الموسيقي التصويرية أو الدرامية كانت شديدة التميز وقد قدم عشرات الأعمال التي ساهمت في تطوير الموسيقي التصويرية بشكل كبير ومن أهم أعماله مسجل خطر والمولد والحريف والأفوكاتو والغول والمشبوه وغيرها من الأعمال الرائعة.
ويبقي السؤال الذي يطرح نفسه, هل حصل المبدع هاني شنودة علي ما يليق بمسيرته الإبداعية من تكريم رسمي سواء من الدولة متمثلة في وزارة الثقافة أو من صناع الفن (الموسيقي- التمثيل).. هاني شنودة يستحق تكريما يليق به.