في الصوم المقدس يتذكر الشعب خطاياه ويراها كالقرمز، فيفنى جسده بالماطانيات التي يقدمها بتذلل وخشوع في صلاة باكر بعد النبوات. وحتى لا يغتم من خطاياه ك “داود” الذي قال: “لأني أخبرُ بإثمي. وأغتم من خطيئتي” مز18:38، لذا ترفع الكنيسة صوتها بهذا اللحن الحماسي “شاري إفنوتي” قائلة :
“الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقة ورائحة البخور”
وكأنها تعلن لكل الشعب الذي وضع خطيئته أمامه دائماً (مز3:51) قائلة : “لا تغتموا فإن الله قادر أن يرفع خطياكم” فقط أرفعوا أصواتكم مع هوشع النبي و”قولوا له إرفع كل أثم وأقبل حسناً فنقدم عجول شفاهنا” (هو2:14). ويكون لحن “شاري إفنوتي” هو احدى عجول هذه الشفاة ، “لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايانا” (عب4:10). إنما بدم يسوع يكون لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس (عب 19:10).
ولعل أحدنا يسأل : “لماذا تقال هذه الكلمات فى أيام الصوم فقط” ؟ حيث أنه في آحاد الصوم الكبير يقال لحن آخر مختلفا تماما عن هذا اللحن وهو لحن “أرى باميفئي”. وفى الحقيقة أنه فى أحاد الصوم تقل حالة النسك كثيرا عن باقى الأيام، لأن حالة الفرح التى تجتاح الكنيسة فى ذكرى قيامة المخلص تكون لها الصدارة، وبالتالى فان الشعب لا يكون فى حاجة الى لحن يشدد من أزره مثل “شارى افنوتى” كحاجته إليه باقى الأيام.
وقد يسأل آخر:”ولماذا تقال هذه الكلمات قبل قراءة الابركسيس” ؟ (ابركسيس :كلمة يونانية تعني عمل، وهو الفصل المنتخب للقراءة من سفر أعمال الرسل في قداس الكلمة). والسبب فى ذلك أن قراءة فصل من أعمال الرسل الأطهار يطلع الشعب على القامة الروحية المرتفعة جدا لهؤلاء الآباء القديسين الذين استطاعوا أن يقيموا الموتى، فقد أقام بطرس طابيثا” من الموت (أعمال 9 : 36-38 )، وأن يشفوا كل مرض وسقم حتى كان ظل أحدهما يشفى الأمراض، ومناديل وعصائب الآخر تخرج الأرواح الشريرة، لذا يكون الشعب فى حاجة الى لحن مثل “شارى أفنوتى” ينزع منه الاحساس بصغر النفس ويعطيه الأمل فى أن ترفع خطاياه.
نعم لقد استطاعت الكنيسة بهذا اللحن الحماسي “شاري أفنوتي” أن تنتشل الشعب الذي أفنى جسده بالصيام والماطانيات، من أن يغتم من خطاياه، وأن ترفعه من بالوعة اليأس بكلمات تعطي الأمل للخطاة وبنغمات ثابتة تشدد من أزره.
ولكن أين سيرفع الله خطايا هذا الشعب… اللحن أجاب قائلاً “امماف” أي “هناك”، و”هناك” هذه ليست ببعيدة، فقط “أرفعوا أعينكم إلى المشرق لتنظروا المذبح وجسد ودم (أى الذبيحة الحقيقية) عمانوئيل إلهنا موضوعين عليه”.(من مردات القداس الغريغورى)
و”هناك” هذه ليست ببعيدة، إذ بعد قليل سيقول الكاهن “القدسات للقديسين” فندخل إلى حجال الملك ونتعشى معه. ولكن على أية حال المكان ليس هو “هاهنا” حيث يقف الشعب فى المسوح والرماد، لكنه “هناك” على مذبح رب الصاباؤوت حيث المحرقة ورائحة البخور.
وكما قال داوود “اصعد لك محرقات سمينة مع بخور (مز 15:66) و قال أيضا “أدخل بيتك بمحرقات أوفيك نذوري التي نطقت بها شفتاي وتكلم بها فمي في ضيقي” (مز 66 : 14،13) هكذا نحن في ضيقاتنا سوف نحمل “ذبيحة النغم” في شفاهنا وننطق بهذا اللحن “شاري إفنوتي”، وكأنه الترنيمة الجديدة التي نطق بها الأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف وهم يحملون قيثارات وجامات من الذهب مملؤة بخوراً هي صلوات القديسين. (رؤ 5 : 9،8).
إن الدهن والبخور يفرحان القلب (أم 27:9)، وفي إحتراق البخور تظهر معاني التفاني والإحتمال للألم والضيقة والجهاد ضد الخطية اللذان بهما تظهر رائحة المؤمنين الذكية، فهم كلما دخلوا في نيران التجارب وصارعوا أجسادهم فأقمعوها وأستعبدوها بالصوم والصلاة وأذلوها بالنسك والتقشف، فاح منهم عطر روحي كما تفوح الروائح الطيبة من البخور أثناء إحتراقه. فهكذا قال القديس إفرام السرياني “قد جعلت ذاتي كنيسة للمسيح وقربت له داخلها بخوراً طيباً، أعني أتعاب جسمي”.
ما أعظم هذا اللحن الممتلئ قوة تشدد هؤلاء المؤمنين المجتمعين معاً في صوم قاسي طويل إنقطاعي، وكلما ضعفوا شددهم بنغماته الصلبة وإيقاعاته القوية الرصينة المحددة الواضحة. وكلما جرجرتهم الخطية لأسفل، رفعهم بنغماته الشامخة وبكلماته المؤازرة فتفوح من أجسادهم التي سحقها النسك، رائحة البخور.