إن الكنيسة القبطية تتهيأ هذه الأيام للدخول في الجو الروحي العميق الذي تعيشه خلال فترة الخمسة والخمسين يوم هي مدة الصوم الكبير.
ولعل لحن “تي هيريني… إنتي إفنوتي” يعد من الألحان المميزة للصوم الكبير فهو مرد للإنجيل معناه “سلام الله الذي يفوق كل عقل، يحل في قلوبكم بالمسيح يسوع ربنا”.
والحقيقة أن هذا اللحن وضعته الكنيسة ليكون نموذجاً “للنسك النغمي” فهو لحن قليل النغمات كما أن له صورة “الزهد الإيقاعي” فأشكاله الإيقاعية أيضاً بسيطة للغاية يمكن لأي طفل أن ينقرها بأصبعه وهو يدندن هذا اللحن “المتقشف الذي لا يحوي أية تغيرات مقامية ولا إيقاعية. وكأن الكنيسة تعلم أولادها النسك والزهد والتقشف ليس في الطعام فقط ولكن من خلال موسيقاها الروحية.
فلك أن تتعجب أنه بالرغم من أن مطلع كلمات اللحن هي” سلام الله الذي يفوق كل عقل” والذي عبرت عنه الكنيسة في لحن “أبؤرو أنتي تي هيريني” بنغمات حادة سريعة مركبة تحلق في سماء الروح بطبقات موسيقية مرتفعة وبتحولات مقامية عبقرية، ذات الكنيسة الأن تعبر عن نفس السلام بلحن صارم نغماته قليلة متقطعة في حدة، متمركزة في منطقة وسطى ليست بالحادة ولا بالغليظة.
ولعلك تزداد عجباً إذا ما قارنت بين هذا اللحن الذي نحن بصدده الآن “تي هيريني” وهو مرداً للإنجيل في الصوم الكبير وبين مرد إنجيل مماثل كالذي يُتلى في ليلة عيد الميلاد. فإنك تندهش إذ أنه بالرغم من أن كلاهما يتم الترنم به بعد قراءة الإنجيل، إلا أنك تجد أن مرد إنجيل الميلاد “أوسيو أفشاي” له طابع مختلف تماماً، فهو يعبر عن المعنى “نجم أشرق في المشارق والمجوس تبعوه” لذلك فهو “يرفع القلب” إلى فوق حيث النجم الذي أشرق، أما لحن “تي هيريني” فهو “يأخذ الجسد لأسفل” ليعلمه كيف ينحني ويضرب مطانية سجوداً وتذللاً للإله الخالق.
لذا كان من البديهي أن الجزء الثاني من اللحن والذي يبدأ بكلمة “أي ايرنوفي” – ومعناه “أخطأت أخطأت يا ربي يسوع المسيح إغفر لي..لأنه ليس عبد بلا خطيئة ولا سيد بلا غفران”- يكون له نفس الصياغة اللحنية التي للجزء الأول، ليس فقط من باب التمسك بمبدأ “التقشف الموسيقي” و “النسك النغمي” وإنما لأن الجملة الإنشائية “أخطأت أخطأت” هي الأخرى جديرة بأن يكون لحنها ممتلئ إنسحاقاً وخضوعاً، فمن هذا الذي يستطيع أن يقول “أخطأت أخطات يا ربي” بصوت صداح جهوري إذ سيبدو بذلك وكأنه متباهي بخطاياه، لذا كان من المناسب أن يكون لحن “إير إرنوفي” “أخطأت” به مسحة من التذلل التي تعبر عن كلمات اللحن من جهة وعنالجو الصيامي الذي يقال فيه اللحن من جهة أخرى.
إن الكنيسة تقدس الصوم وتنادي بإعتكاف ليس في قراءتها فقط ولكن في ألحانها أيضاً.