رفعت رأسي إلي السماء أتأمل كيف هي مرفوعة فوق رؤوسنا, ثابتة لا تتحرك ولا تنطبق فوقنا لتكسر أعناقنا التي تتكبر وتتشامخ حينما نقتدر, ولا نتذكر ماضينا السيحق, إنها حكمة الله أن تبقي أرجوحة الحياة ما بين ارتفاع وهبوط, غيمات الذات تطردنا أينما نرحل, لكنها أبدا لا تمطر تواضعا ولا تراجعا نحو الدفء المنشود, إنه الدفء الذي بحثت عنه ثريا بطلة حكاية اليوم, لكنها لم تجده إلا في حضن دار لليتيمات, عوضا عن حضن أبويها, واستقرت برودة الحرمان في خلاياها, منذ نعومة أظافرها, شبت مع شبابها, وشابت مع شيبها, فاليتم مثل الطفل يكبر مع الإنسان, إلي أن صارت صاحبة الخمسين عاما, بقلب محروم ومشاعر خاوية إلا من الحنين للاستقرار والمأوي, ممتزجة بامتنان وعرفان للدار التي نشأت فيها وأوتها.
جاءت ثريا طالبة أقل القليل, حذاء ترتديه خلال عملها بدار لليتيمات, فهي تقف طويلا علي قدميها وتعاني من الفلات فوت وتحتاج حذاء خاصا غالي الثمن تكلفة صناعته حوالي ألف جنيه, تضطر إلي اللجوء لأية جهة تشتريه لها كلما تمزق القديم.
وجدت في حالها شيئا لافتا, ولم يكن من الممكن الاستماع لقصة الحذاء بعيدا عن قصتها الأصلية التي أدت بها إلي الطواف علي المانحين لتلقي المساعدة. كانت خجولة جدا ترددت كثيرا قبل أن تروي ما بها, ثم اطمأنت وبدأت تحكي قصتها الحزينة التي يقف خلفها حرمان واحتياج أكثر ألف مرة من قصة الحذاء, إنه اليتم الذي وصل إلي عمق أعماقها, الذي عشش فيها طفلة وشابة ومسنة, وتجذرت أعشاش اليتم في جنبات حياتها, لم تترك جدارا إلا وسكنته, تقول ثريا: والدتي توفت وكنت بنت شهر, يتيمة الأم, طلعت للدنيا, أنا وأختي وكانت أكبر مني بأربع سنين, أم ماتت وأب شاب مايعرفش حاجة عن التربية, كان شغال فراش في الكنيسة, فأخذنا سلمنا لكنيسة غنية, وبدورها سلمتنا لجمعية لرعاية الطفولة, وانتبه هو لحياته واتجوز تاني, والمفاجأة أن مراته هي إللي كانت بتيجي تزورنا, ولمدة سنين طويلة ماشفناش أبويا ولا مرة, ومع الوقت اتعودنا علي الحرمان منه زي ما اتحرمنا من أمنا, خرجت أختي علي بيت جوزها وفضلت أنا في الدار, كبرت فيه واشتغلت كمان فيه, أطبخ وأنضف.
عدت الأيام, ومات أبويا حتي من غير ما أشوفه, واتقدم لي راجل كويس, ومسئولة الدار شافت إنه مش مناسب, لكن أنا اشتعبطت فيه, وقلت هايريحني, لأنه كان شغال في العراق, وبعد موافقة مسئولة الدار علي زواجي, طلبت مني أوقع علي إقرار إن ده علي مسئوليتي, ونفذت إللي طلبته واتجوزته.
وبعد فترة رجع من العراق مفلس, وبدأت حياتنا تتحول لسلسلة من العذاب, في الوقت ده كان أزمة العراق مع الكويت, ورغم أن الحال كان علي ناس كتير, إلا أن جوزي أصابته نوبات هياج, بسبب الظلم إللي وقع عليه, وبدأ يضربني ويعتبر إني نذير الشؤم عليه, لدرجة أنه في مرة دلق علي جسمي مية مغلية, ووقتها غضبت لمدة ست سنين كاملة, رجعت فيها للدار, بعد ما خرجت منها بطولي, رجعت شايلة ابني علي كتفي.
ورغم الشقا إللي شفته طول حياتي إلا أن كان عندي دايما أمل أكون زي بقية الستات, لي بيت وحياة مستقلة, مش آعيش عمري كله في دار للرعاية, وبعد مرور ست سنين, حاول يرجعني البيت مرة تانية, وفعلا قبلت رغم كل شيء لأن ماقدرش أسيب ابني يفضل عايش في الدار, ولو كبر شوية هياخدوه يحطوه في دار تانية, يبقي أنا كررت مأساتي في حياة ابني, وحرمته من أمه وأبوه.
وفعلا وافقت علي الرجوع, والحال اتعدل وبقي تمام, لكن الظاهر ماليش نصيب في الاستقرار, بعد ما جوزي بقي كويس معايا, جاء له سكتة قلبية ومات, وبقيت بطولي بابني.
كملت الرحلة وشقيت عليه ربيته وكبرته, ولقيت إللي يساعدوني, وربنا ما خذلنيش, لحد ما خد شهادته, سعيت بكل قوتي علشان أوفر له سكن إيجار قديم, والمسئولين عن الدار القديمة ساعدوني, وبعد ما أخدنا الشقة الإيجار القديم, واتجوز فيها طبعا أنا ماليش مكان غير في شقتي إللي المفترض نعيش فيها كلنا, لكن إللي حصل عكس كده.
فوجئت بابني بيثور ضدي من وقت للتاني زي ما كان أبوه بيعمل ولو وقفت قدامه بيضربني ويمد إيده علي!
ابني إللي جبته من بطني وشقيت عليه عمري كله, بيضربني, صدمتي فيه كانت أكبر من حرمان السنين كله, أكبر حتي من حبي ليه, مفيش في إيدي حاجة أعملها الحياة بالنسبة لي جحيم في البيت, انكسرت قدام مراته, وفي نفس الوقت ماقدرش أرجع الدار بشكل منتظم, لأن إللي كانت مسئولة عني في الدار ومتابعة كل ظروفي ماتت, باروح ثلاث أيام فقط في الأسبوع وبقية الأيام بارجع البيت أواجه مصيبة ابني!!