تحدثنا في الجزء الأول عن الفكر اللاهوتي في هذا اللحن الممتع الأسبسمس الآدام لعيد الميلاد المجيد، نستكمل الأفكار فنتكلم عن الجانب الطقسي والجانب الموسيقى لللحن.
الجانب الطقسي في اللحن:
يوجد في طقس الكنيسة القبطية الأورثوذكسية ثلاث مجموعات من الألحان من الناحية الموسيقية، المجموعة الأولى: هي ألحان موسيقاها وكلماتها موضوعة خصيصا للمناسبة والحدث نفسه، ومن أمثلة هذا النوع من الألحان لحن “إيبارثينوس”، فهو لحن يتحدث عن الميلاد ولا يصلح لأن يقال في مناسبة طقسية أخرى، والمجموعة الثانية: من الألحان فهي تندرج تحت حالة معينة عامة تعيشها الكنيسة، كحالة الفرح أو الحزن أو الصوم….، وتمثلها الخمسة طقوس الأساسية في الكنيسة ( السنوي، الكيهكي، الفرايحي، الصيامي، الشعانيني)، ولها ألحان ثابته لكل طقس ولكن تتغير الكلمات تبعا للمناسبة، فمثلا نجد ألحان مردات الإنجيل تمثل هذه المجموعة، ثم تأتي المجموعة الثالثة: وفيها لاتتغير نغماتها على مدار السنة مهما اختلفت المناسبة أو العيد،والذي يتغير في اللحن هو كلماته فقط، وما يمثله هذا النوع هولحن الأسبسمس الأدام لعيد الميلاد الذي نتكلم عنه في هذا المقال فهو نفس اللحن السنوي الذي يُقال على مدار السنة لحن”أونوف إممو ماريا” (إفرحي يامريم) وهو يقال في نهاية صلاة الصلح.
كلمة “أسبسمس” كلمة يونانية معناها تحية أو سلام أو قبلة وكلمة أدام كما قلنا في مقالات سابقة أنها تُعبر عن الفرح يقول القمص تادرس يعقوب ملطي أنه في القديم كان الحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس ثقيلا جدا يحتاج إلى 300 كاهن كي يحملوه وحين عُلق جسد الرب على الصليب إنشق حجاب الهيكل وانفتحت السماء على الأرض وصار لنا حق الدخول إلى عرش نعمته، وهذا ما يحدث في طقس الكنيسة تأكيدا لهذا المفهوم، فقبل قداس المؤمنين يستعد الكل للإرتفاع في السمويات والوقوف في حضرة الله بإعلان الكنيسة عن مصالحة الله مع الناس في المسيح يسوع، وهذا ما يسمى في الطقس بصلاة الصلح ويجيب المؤمنين على ذلك عمليا بمصالحتهم مع بعضهم البعض لتكون قبلة روحية أو “أسبازموس”،ولذلك تسبح كل الكنيسة هذا “الأسبسمس” في نهاية صلاة الصلح، عندما يتأكد المؤمنون من فعل المصالحة الذي حدث في المسيح، ومن مصالحة المؤمنين بعضهم لبعض كما قال ربنا يسوع المسيح “فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك هناك قربانك على المذبح واذهب إصطلح مع أخيك،وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت5: 23, 24) ولذلك تسمى صلاة الصلح أيضا صلاة التقبيل لأن في نهايتها يقول الشماس قبلوا بعضكم بعضا، وفي هذا الطقس أيضا يرفع الكاهن والشماس الإبروسفارين من فوق المذبح رمز للخلاص الذي تم بالقيامة والذي بدأ بتجسد رب المجد، وتمت المصالحة بين السماء والأرض، وانفتح باب الفردوس لكل الأبرار من أيام آدم وحتى آخر الدهور، وإنزال اللفافة التي في يد الكاهن رمز حائط السياج المتوسط أي العداوة الذي نُقض، وظهور الصليب في يد الشماس توضيحا لأن المصالحة قد تمت بالصليب.
البعد الموسيقي لللحن:
الأسبسمس الأدام هو اللحن الذي ينتهي به جزء صلاة الصلح في القداس الإلهي، وهو النتيجة النهائية لتذكار فعل المصالحة بين السماء والأرض بالخلاص الذي تم على الصليب؛ ولذلك دائما يكون هذا اللحن بإيقاع نشيط مفرح، وألحانه جميلة مليئة بالطرب والجمل اللحنية الراقصة المبهجة، ولذلك يصاحبه دائما آلتي الإيقاع الناقوس والمثلث، ويُشيع هذا اللحن حالة من السعادة والنشوة، وهو في مجمله عبارة عن 5 أرباع، أول رُبعين يقالا لمناسبة الميلاد،ثم يكمل اللحن بثلاثة أرباع من الطقس السنوي وهي تكملة لحن إفرحي يا مريم “هينا إنتين هوس” (لكي نسبحك)، “إكؤواب” (قدوس)، “تين تي هو إيروك” (نسألك ياابن الله).
وهو من مقام الهزام ركوزه الأساسي على مي نصف بيمول، وعندما يكون المقام على مسافة رابعة لأسفل ويسمى مقام راحة الأرواح ويكون ركوزه في هذه الحالة على نغمة سي نصف بيمول، ومن تسميته راحة الأرواح نجد فعلا هذا اللحن من جمال مسافاته بين نغماته يعطي راحة نفسية وبهجة وسلام، وهذا اللحن الجميل تكون سرعته ما بين (110-120 نبضة في الدقيقة) ويُبنى أساساً على جنس الأصل (مجموعة النغمات الأولى في السلم الموسيقي) ويسمى جنس السيكاه، الذي يُعطي إحساس الحب، وفيها نُعبر بالنغمات عن حبنا لله الذي تجسد وصار إنسانا مثلنا حتى يفدينا ويخلصنا من خطايانا، ويمتد هذا الإحساس مع باقي الأرباع المأخوذة من اللحن السنوي، يتكلم عن التسبيح لله مع الشاروبيم والسارافيم، ثم نقول قدوس قدوس قدوس، وهنا يرتفع اللحن في هذا الرُبع حتى يصل إلى ذروة اللحن ويظهر مقام الهزام (أو راحة الأرواح) بوضوح حين يصل إلى جنس الفرع (مجموعة النغمات الثانية في السلم الموسيقي) ويسمى حجاز، الذي يتميز بالبُعد الواضح بين مسافات نغماته والذي يُعطي إحساس الإبتهال والمناداة، وفيها الإحساس بعدم الإستحقاق أن نذكر هذا اللقب المهوب الذي لله العظيم الذي من أجل قداسته ورحمته فقد أعطانا الحرية لأن نناديه يا أبانا ونبتهل إليه، وفيها إحساس الإمتنان لله المحب العطوف الذي أحبنا وجاء لأجلنا متجسدا، وينتهي اللحن بالرُبع الذي نطلب ونحن في هذه الحالة الروحية العميقة من أجل حفظ حياة بطريركنا وأساقفتنا، ليثبتهم على كراسيهم؛ لأن هذا يُعطي استقرار للكنيسة كلها بصورة عامة وهذا ما نرجوه دائما.
من جمال هذا اللحن جعلته الكنيسة يقال على مدار السنة، فهو لحن المُصالحة في القداس الإلهي، ولا يتغير هذا المفهوم في كل المناسبات الكنسية، ويعبر عن الفرح بالسلام والصُلح الذى نسعى إليه دائماً، فجمال ألحانِه وبهجة إيقاعِهِ يجعلنا نحلق في عالم من الروحانية والقداسة نحو السماويات، نترك فيه لدقائق عالمنا المليء بالمتاعب والضغوط، ونعلو إلى آفاق مليئة بالراحة والنشوة والفرح الروحي.