إن الميلاد العجيب والتجسد الذي يفوق العقول الذي قرره رب المجد، لكي يصير إنساناً ويعيش بيننا، ونراه بعيوننا،وتسمعه آذانُنا، وتلمِسهُ أيدينا، كما قال القديس يوحنا الحبيب في رسالته (1يو1 : 1)، كان أمراً غريباً على البشرية استطاع أشخاص قليلون أن يعاينوا هذا الحدث العظيم، وهم القديسة العذراء مريم، والقديس يوسف النجار، والقديسة سالومي القابلة، التي أتت لمساعدة ومساندة السيدة العذراء في لحظة الولادة، وهذا الحدث الجليل يتكلم عنه مرد إنجيل قداس برامون الميلاد موضوع بحثنا في هذا المقال.
“برامون” كلمة يونانية من فعل معناه (ثَبَتَ، استَمَرَ، دَاوَمَ)، وتعني الاستمرار في الخدمة (للعبيد)، أو الثبات والمداومة، أو السهر والترقب، وهذا يرتبط بالجهاد الروحي حتى مجىء الرب، ويوافق كلمات رب المجد “طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين” (لو12: 37)، وهو فعلاً حال الكنيسة التي ثَبَتَت وداوَمَت على الصلاة والجهاد الروحي خلال فترة الصوم، وجاء اليوم الذي ننتظرفيه ميلاد السيد المسيح ونؤكد على استعدادنا، ولذلك تجعل الكنيسة أيام البرامون أيام نسكية، لا نأكل فيها الأسماك ويكون الصوم إنقطاعياً،وهذا يزيد إحساسَنا بقيمة العيد، وبالفرحة الروحية لقدومه، فنأخذ بركتهُ ونحن في حالة روحية قوية.
و”البرامون” اصطلاح كنسي تشاركنا فيه كنيسة إنطاكية، والكنائس الأرمنية والبيزنطية، وكنيسة روما،والكنيسة الأنجليكانية، وأول من استخدم تعبير “البرامون” هو العَلَامة يوحنا بن سبَاع (القرن الثالث عشر) في كتابه الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة، ولقد استقر صوم الميلاد في الكنيسة القبطية الأورثوذكسية منذ القرن الحادي عشر الميلادي، بحيث يكون ستة أسابيع أي 42 يوماً، أضيف إليها البرامون ليكون 43 يوماً. وفي الطقس الكنسي تكون مدة البرامون يوم واحد، أو يومين ويكون الجمعة والسبت (إذا جاء العيد يوم الأحد)،أو ثلاثة أيام ويكون الجمعة والسبت والأحد (إذا جاء العيد يوم الإثنين)، وفي هذه الحالات يكون يوم الجمعة صوماً إنقطاعياً، حيث أن السبت والأحد هما يمثلان راحة الرب وقيامته المقدسة، وكما قلنا الصوم الإنقطاعي هو إستعداد روحي للعيد.
يُعتبر مرد الإنجيل بصورة عامة هو جزء من منظومة كبيرة في ليتورجية القداس الإلهي، وهي فترة القراءات الكنسية، التي تبدأ بمزمور وإنجيل عشية، و مزمور وإنجيل باكر، ثم البولس والكاثوليكون والإبركسيس والسنكسار، وأخيراً مزمور وإنجيل القداس والعظة، ويتخللها عدد من الألحان الجميلة التي تنتهي بمرد الإنجيل، الذي يُعتبر النتيجة النهائية للخط الروحي الذي يعتمد على المناسبة التي تعيشها الكنيسة، إن كان تذكار لأحد القديسين، أو عيد سيدي كما في حالتنا هذه التي نحتفل بها بحدث الميلاد الإلهي، فقراءات برامون الميلاد تدور حول ميلاد المسيح، من حيث نسبه، والحبل به، وميلاده، وفكرة التجسد، والوعد به في النبؤات. وهنا نجد إرتباط جميل مابين مرد الإنجيل وبين مرد الإبركسيس “ياللطلقات الإلهية المتعجب منها التي لوالدة الإله مريم العذراء كل حين”، الذين يتحدا في فكرة لحظة الولادة الإلهية العجيبة، وهي مناسبة جداً ليوم البرامون الذي ينتهي في الليلة التي ولد فيها المخلص.
أما من حيث موضوع هذا اللحن فالرُبع الأول منه”العذراء مريم ويوسف وسالومي تعجبوا جداً مما رأوه”،عبارة بسيطة ولكنها تحمل داخلها بعداً عميقاً، فهذه الشخصيات الثلاث استحقوا أن ينظروا ويسمعوا أحداثاً عجيبة، فقد رأوا رب المجد مولود بين أيديهم “فالقدوس المولود منك يدعى بن الله”، (لو1: 35)، وقد تحققت كلُالنبوات التي حفظوها، رأوا الرعاة يتحدثون عن الظهور المفرح للملائكة، رأوا النجم المتلأليء الذي ظهر للمجوس ملوك المشرق، وقد أتوا وسجدوا وقدموا الهدايا الرمزية،كل هذه الأحداث جعلتهم يندهشوا ويتعجبوا من هذه الحالة الروحية الفريدة، “فلما رأوا ذلك، أخذوا يُخبرون بما قيل لهم بخصوص هذا الطفل. وحميع الذين سمعوا بذلك دُهِشوا مما قاله لهم الرعاة وأما مريم، فكانت تحفظ هذه الأمور جميعاً وتتأملها في قلبها”(لو2: 17-19).
وفي طقس هذا اليوم يَكمُل اللحن بثلاثة أرباع أخرى ليكون الرُبع الثاني “أريبرسفيفين إإهري إيجون أو تينشويس إنيبتيرين تي ثيؤتوكوس” عن شفاعة العذراء مريم ليغفرلنا الله خطايانا، والرُبع الثالث “أريبريسفيفين إإهري إيجون أو بيأرشي أنجيلوس إثؤاب غابرييل” عن شفاعة الملاك غبريال المبشر، ثم ينتهي بالرُبع الرابع والأخير والذي يقال على مدار السنة “جى إفسمارؤوت إنجى إفيوت نيم إبشيري نيم بي إبنفما إثؤواب” وفيه نمجد الله المثلث الأقانيم، وهنا نذكر تأمل لنيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل “إن قراءة الإنجيل في القداس هو حضور للسيد المسيح كمعلم وسط شعبه، لذلك فالكنيسة تعبر عن هذا الإيمان في كل الطقوس الواقعة حول الإنجيل” فالسيد المسيح أقنوم الكلمة نسبحه بلحن آجيوس تسبحة السمائيين، ويقدم الكاهن البخور الذي يمثل الحضرة الإلهية، ويرد الشعب في مرد الإنجيل مبارك الآب والابن والروح القدس.
ومن الناحية الطقسية الموسيقية فإن طقس البرامون هوطقس سنوي لذلك فإن لحن مرد إنجيل البرامون هو نفس لحن مرد الإنجيل السنوي ويقال بعد إنجيل القداس والعظة، الربع الأول منه عبارة عن جملتين أو فكرتين موسيقيتين بسيطتين وإيقاعه رباعي وسرعته حوالي (100-110 نبضة في الدقيقة) ويقال بأسلوب “النيوماتيك” (أي كل حرف لفظي يقابله نغمتين أو ثلاثة )الذي يُعتبر من أحد خصائص الموسيقى القبطية، فيه تأخذ الكلمات مَطَاً خفيفاً وكأن كل كلمة بها تَذييل بسيط، لتُعطي إحساس التأمل أو الدهشة، وهذا متوافق مع موضوع هذا الربع الذي يتكلم عن تعجب العائلة المقدسة مما رأوه، فالإنسان عندما يتواجه مع شيء عجيب يقف أو يصمت قليلاً بين كل كلمة وكلمة، متفكرأً فيما رآه أو سمعه من أحداث، كذلك نجد في لحن هذا الرُبع المميز، أنه بالرغم من بساطته ولكن أعطى علواًبسيطاً في كلمة (مريم)، وهذا وضع طبيعي تأكيدا لمركز العذراء كوالدة الإله، ثم تأتي كلمة “إيماشو” التي تعني (جداً) فيها تعلو النغمة بصورة واضحة أيضاً لتعبر عن عِظَم الدهشة من الأمور العجيبة التي رَأَوها، وهذا يعطينا فكرة عن رؤية الكنيسة للتعبير عن الكلمات باللحن مهما كانت بساطة اللحن، فتعطي للمصلي فرصة أكبر للتعبير عن مشاعره خلال التسبيح باللحن، فيسبح بالروح والعقل والحنجرة وبالمشاعر أيضاً.
ومقام هذا للحن من مقام البياتي وهو مقام مصري أصيل ومشهور، به أحاسيس مختلفة مابين الرقة والشجن والفرح والشوق والحب والإنتظار، وهذا متوافق مع فكرة اللحن الذي فيه نشترك مع العائلة المقدسة في تعبيرنا عن حبنا وإنتظارنا للمسيح الذي أظهر أموراً عجيبة لخلاصنا، وفيه نقدم تقديرنا وحبنا للعذراء والقديس يوسف والقديسة سالومي، الذين استحقوا أن يعاينوا لحظة الميلاد الإلهي العجيب. ثم يتحول اللحن إلى الإيقاع الثنائي بسرعة حوالي (120 إلى 130 نبضة في الدقيقة)، ويصبح أكثر نشاطاً وحركة، وذللك في الثلاثة الأرباع التالية التي تخص السيدة العذراء ونطلب شفاعتها ليغفر لنا الله خطايانا،كذلك نطلب شفاعة الملاك غبريال أيضاً، والإيقاع الثنائي السريع (مثل المارش) يُوحي بفكرة الشفاعة واللجاجة في طلب المغفرة، ولا ننسى أيضاً فكرة النشاط والجهاد الروحي الذي تميزت به السيدة العذراء، كما يُعطينا إيقاع وسرعة اللحن فكرة بسيطة عن سرعة الملائكة في خدمتهم، كما قال الكتاب “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه”(مز103: 20). نحن نحتاج في هذا اللحن الجميل أن نعبر بتسبيحنا عن إمتناننا لإلهنا الحنون، الذي أتى متجسداً من أجل خلاصنا، وأدهَشَنَا بفِعلِهِ العظيم والعجيب بأنَ “الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده” (يو14:1).