«لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب.» قد يتساءل البعض: أي فرح هذا الذي يمكن أن نختبره اليوم وسط الظروف الصعبة، أو كيف لا نخاف مما قد تحمله لنا الأيام القادمة.. من مرض، وداع أحد الأحباء، أزمات مالية، مشاكل عائلية، مخاوف مرتبطة بنا أو بعائلتنا.! وأمام هذا التساؤلنحتاج لمراجعة الفرق بين الفرح والسعادة.. ولعل فهمنا للمعنى اللغوي لكل منهما يمكن أن ينقلنا من معاناة الحاضر أو القلق من الآتي إلى سلام وبهجة “لا تخافوا” الميلادية، والرجاء في المستقبل الذي يتجدد مع كل عيد ميلاد.
تعريف السعادة في قواميس اللغة هي تلك المشاعر التي ترتبط بالظروف المواتية، وبوفرة مصادر المعيشة.. بالنجاح وتحقيق الأحلام، بسهولة الحياة وغياب المضايقات، فالسعادة إذن ترتبط بما هو خارجنا وما يحدث حولنا. أما الفرح فهو الشعور العميق النابع عن فيض الرضا والاكتفاء والثقة التي تغمر القلب الذي يؤمن بالله، ويرتبط اختباريًا بشخص المسيح ابن الله الحي. السعادة تعتمد على الأحداث والظروف،أما الفرح فهو ما يشعر به الواحد منا بمعزل عنهما! لقد وردت مفردات كلمة “سعادة” في الكتاب المقدس ٣٠ مرة فقط، بينما جاءت كلمة “فرح” في أشكالها المتعددة ٣٠٠ مرة.
حتى لا يتحول العيد إلى موسم للاحتفال المجرد من المعنى، والذي يقتصر على تبادل الهدايا، والملابس الجديدة للأبناء، واللقاء مع الأحباء؛ اعتدنا كأسرة أن نمارس تقليد الجلوس معًا حول النصوص الكتابية المرتبطة بما نعيد لأجله. وأقف مبهورًا للمرة المائة (على الأقل) أمام ما سجله الوحي على فم البشير لوقا عن بشارة الميلاد للعذراء مريم أولا، ثم للرعاة البسطاء في ليلة الميلاد. وقد لمع أمام عينيّ قول الملاك للعذراء: «لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله…»، وبشارته للرعاة: «لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب.»
لم تكن مفاجأة عادية على العذراء أن تجد ملاكًا يتحدث إليها، كما لم يكن سهلاً عليها أن تدرك أن حياتها مقبلة على واقع جديد لم تكن تفكر فيه.. لكنها قبلت بتواضع أن تتغير حياتها بشكل جذري تجاوبًا مع الاختيار الإلهي لها؛ فاختبرت قوة العلي تعمل فيها، وصنعت تحولاً غيّر تاريخ البشرية بالقدوس المولود منها: ابن الله. مفاجأة التغيير كانت غير متوقعة، ورهبة المسؤولية كانت تفوق تحمل أي بشر، إلا أن العذراء أتاحت نفسها بالكامل لمشيئة الله، وأجابت الملاك: «ليكن لي كقولك!» هنا تفجّر داخلها فرح مجيد عبرت عنه بتسبحتها الخالدة: «تعظم نفسي الرب،وتبتهج روحي بالله مخلصي!» الملاك لم يُغيب مريم عن حقيقة ماستختبره من آلام في واقعها الجديد، لكنه حوّل خوفها وقلقها إلى فرح وقوة بوعد معية القدير، الذي لم يفارقها ولا لحظة طوال أيام رحلتها مع القدوس المولود منها! المواعيد الإلهية تجدد القوة والعزيمة بينما نكمل مسيرة غربتنا في هذه الحياة، لكنها لا تغيبنا عن حقيقة ما قد تتضمنه الأيام من سيف قد يجتاز في النفس، مثل الذي اجتاز في نفس العذراء مريم.
الروح القدس الذي حل على مريم العذراء، وظللها بقوة العلي، هو نفسه الذي عمل في حياة الرسول بولس، فكتب إلى كنيسة فيلبي رسالة الفرح.. كتبها وهو يعاني الاضطهاد بسبب إيمانه بالمسيح. ولعل هذه الرسالة هي أفضل ما يشرح لنا من النصوص المقدسة الفرق بين السعادة والفرح. وقد استخدم الرسول كلمة “فرح” في أشكالها اللغوية المختلفة ست عشرة مرة ليعلمنا كيف يمكن أن يكون لنا فرح حقيقي في المسيح يسوع بالرغم من الظروف. فبينما كان مقيدًا بسلاسل، وقد أوشكت حياته على الانتهاء، حدثنا عن إيمانه وثقته بالمسيح، وكيف تغيرت وجهة نظره عن المعاناة والاضطهاد من أجل المسيح (فيلبي ١: ١٢- ١٤). ووسط كل هذا نسمع هتافه: «افرحوا في الرب كل حين».. ثم يختم الرسالة بإعلان إيمان يخاطبنا اليوم، وكأنه يرى من بعيد ما قد نمر به من أزمات: «فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع» (فيلبي ٤: ١٩). لا أستطيع أن أتجاوب مع نداء الملائكة لنا بأن نفرح بميلاد المسيح بمعزل عن المكتوب في رسالة فيلبي.
في هذا العيد، أدعو كل أسرة أن تقضي وقتًا -ولو قصيرًا، ربما حول مائدة طعام العيد، لتقرأ ترنيمة العذراء في إطار ما يحدث في بيوتنا وفي العالم اليوم.. فلعل هذه التسبحة تفجر في داخلنا نفس الفرح الذي عبرت عنه بهذه الكلمات الرائعة: “تعظم نفسي الرب بالرغم من الظروف، وتبتهج روحي بالله لأنه مخلصي.. لأن رحمته التي كانت مع آبائنا ممتدة لتكون مع جيلنا حتى اليوم، وجيل أبنائنا في الغد. الله الذي أظهر قوته معي يهلك المتكبرين في قلوبهم، وينزل الجبابرة عن عروشهم؛ لكنه يرفع المتضعين، ويشبع الجياع بخيرات، ويصرف الأغنياء فارغين” (قراءة شخصية لأجزاء من تسبحة العذراء مريم).
“عمانوئيل” منذ القديم مع شعبه، “عمانوئيل” معنا اليوم في ظروفنا، “عمانوئيل” سيستمر معنا إلى منتهى الأيام.. وإن كان الله معنا، فأي شر أو ظروف يمكن أن تكون علينا؟! إن اختبار الفرح ممكن بعمل الروح القدس في داخلنا، حتى إذا لم تتوفر السعادة.. فلنسمح للروح القدس، شخص الله المبارك، أن يعمل في قلوبنا في هذا العيد، فنفرح أيًا كانت الأحوال.. وكل عام وأنتم بخير.