كان كل ما يؤلمها أن يشذ أحد أبنائها عن طريق الصواب, وهي التي أفنت زهرة شبابها وأنكرت نفسها, وأهملت كل ما يختص بها في سبيل أن يشب أولادها وينشأوا تنشئة صالحة, لقد تركت عملها دون تردد بعد أن أنجبت أولادها الأربعة. ثلاثة وبنت واحدة كانت تعهد بها لأمها التي كانت تعيش معها, ويوم ماتت أمها تركت العمل دون تردد وهي تؤكد لنفسها أن تربية أولادها ورعايتهم وحمايتهم من الانحراف أكثرنفعا وأجدي من عملها خارج المنزل.
وظل أولادها يتدرجون في دراستهم وهي ترعاهم وتسهر علي راحتهم, وتقضي ساعات طويلة تراجع لهم دروسهم وتعد لهم الغذاء وتسهر إلي أن يذهب آخرهم إلي فراشه وكانت سعادتها لا توصف حينما تراهم في نهاية العام قد نجحوا جميعهم وحصلوا علي درجات عالية, كان هذا النجاح يثلج صدرها ويجعلها تحس أن الله عوضها عن تضحيتها أكبر تعويض, ووصل الابن الأكبر إلي نهاية المرحلة الثانوية والأوسط في الثانية الثانوية والثالث في الإعدادية, أما الابنة الصغيرة فهي تستعد لدخول المرحلة الإعدادية.
وفي منتصف العام الدراسي حدث مالم تكن تتوقعه بالمرة جاءها خطاب من المدرسة يخطرها بتغيب عادل الابن الأوسط من المدرسة أكثر من اثني عشر يوما متتالة. وقلبت الخطاب مرات بين يديها وهي لا تصدق كيف يغيب.. غير معقول أنه يستيقظ مبكرا ويذهب إلي المدرسة ويعود وقت انصراف التلاميذ, ويقضي بقية النهار في استذكار دروسه ويبدو أنه يبذل جهدا مضاعفا هذا العام بالذات, لقد كانت تشعر بالسرور في قرارة نفسها وهي تراه يجد ويقضي وقتا طويلا داخل حجرته يستذكر. فكيف بالله يحدث منه ذلك لابد أن المدرسة قد أخطأت, لابد أنها تقصد تلميذا آخر غير عادل.
ودون أن تنتظر عودة زوجها أو أولادها أسرعت ترتدي ثوبا بسيطا وتتجه إلي مدرسة عادل. وهناك كانت مفاجأة أكبر تنتظرها, لقد تغيب عادل قبل هذه المرة مرتين وفي كل مرة كانت تطول غيبته إلي عشرة يام يعود بعدها إلي المدرسة وهو يحمل معه خطابا من ولي أمره يثبت أنه كان مريضا. أما ملاحظات مدرسي فصله فقد أثبتت أن قدرته علي التحصيل والتركيز قد ضعفت, وأنه لم يعد مطيعا نظيفا مواظبا علي أداء واجباته كما يجب, ولم يكن عادل في ذلك اليوم الكئيب في المدرسة.
ونزلت دمعتان كبيرتان علي خد الأم الحزينة وهي لا تصدق أن أحد أبنائها يشذ عن طريق الصواب ويفعل كل هذه الأخطاء ويملك قدرة علي أن يظهر بريئا مطيعا مستقيما, وهدأ المسئولون من لوعة الأم وحسرتها, واتفق الجميع علي أن يتعاونوا لإنقاذ عادل من الهوة التي يتردي فيها.
لقد اتفق ناظر المدرسة أن يتصل بها في المنزل بمجرد عودة عادل إلي مدرسته. وبعد يومين عاد عادل منتظما في دراسته وقبل أن يسأله أحد أين كان أو لماذا تغيب أخرج من جيبه خطابا من والده يؤكد أنه كان مريضا, وفي دقائق كانت الأم في المدرسة في حجرة الناظر, وأمام الناظر وقف عادل مرتجفا وهو يري والدته والخطابات المزورة التي قدمها من قبل للمدرسة ومدرس فصله ومشرف المدرسة الاجتماعي, وانهار تماما لم يستطع أن يسيطر علي دموعه فانفجر باكيا, واعترف بأنه يتغيب فعلا من المدرسة وأنه يحب الذهاب إلي السينما, وأنه يذهب إلي صديق له في المدرسة يعيش مع شقيقه الأكبر فقط يذهب إلي منزله ويقضيان الوقت في لعب الورق والاستماع إلي الأغاني بينما يكون الشقيق الأكبر متغيبا في جامعته. واعترف عادل بأنه حاول أن يقاوم ولكنه لم يستطع , إنه لا يستطيع أن يقاوم إغراء مشاهدة فيلم يعرض, إنه لا يستطيع مقاومة قراءة الروايات الرخيصة التي تباع في الأسواق. والتي يدسها بين كتبه ويقضي وقته في حجرته في قراءتها. وإنه اضطر إلي أن يزور إمضاء والده حتي لا يفتضح أمره أمام المدرسة وأمام والديه في البيت. ولكن بعد أن عرف ناظره ومدرسوه ووالدته ما حدث لم يعد هناك ما يخشاه, لقد افتضح أمره تماما , ولم يعد هناك ما يخيفه, إنه مستعد تماما لأن يمد يده ويضعها في يد كل إنسان يساعده علي التغلب علي هذه النزوات وغفرت الأم وهي تقدر موقف ابنها, وقبل الناظر أن ينسي ما حدث وأن يفتح صفحة جديدة مع عادل, أما مدرسوه والمشرف الاجتماعي فقد تعهدوا جميعا برعايته والاهتمام به أكثر حتي يعوض ما فاته.
وعادت الأم إلي البيت ودون أن تذكر شيئا لابنائها أو زوجها تعاهدت مع الابن علي نسيان كل شيء. وظلت تذهب إلي المدرسة مرة كل أسبوع لتتفقد تصرفات عادل وترعاه وكانت النتيجة أكثر مما كانت تتمني فقد نجح عادل في نهاية العام بنفس التفوق الذي تعودته منه.
لقد استطاعت أم عادل بحكمتها وعقلها الراجح أن تنقذ ابنها وأن تعيده إلي طريق الصواب فلم تحرمه من رعايتها أو عطفها, ولم تعيره بأخطائه وتعاقبه عليها, ولم تخبر والده أو إخوته وبذلك جنبته نظرات الرثاء أو السخرية أو الشماتة أو اللوم وساعدته علي أن يتحاشي كل العقد وأن لا يحس بعيون من حوله ترقبه وتترصد أخطاءه وهفواته وتحاسبه حسابا عسيرا دون رحمة أو تهاون. لقد شعر بأنه مازال يتمتع بالثقة والحب من كل الذين يحيطون به فلم يكابر أو يعاند ليثبت أنه لم يخطئ, لقد دفعته هذه الثقة وهذا الحب إلي الاعتراف بالخطأ والتفاني في إصلاحه, واستطاعت أم عادل أن توجد حلقة اتصال بين البيت والمدرسة وأن تخلق رعاية ورقابة مستمرة بين البيت والمدرسة لا يستطيع معها عادل أن ينحرف أو يضل طريقه. وليت كل أم وكل مدرس وناظر يعمل هكذا لينقذوا مستقبل مئات من الطلبة ضلوا الطريق مثل عادل ومازالوا في حاجة إلي قلوب رحيمة وعقول راجحة ليعودوا إلي جادة الصواب.