قد تبدو كلمة فطرة من الكلمات البسيطة والمحايدة، لأنها تعنى حالة الكائن النقية بالميلاد قبل أن تعقدها مؤثرات البيئة والثقافة، لكن بساطة الكلمات غالبا ما تخفى دلالات مركبة وربما معقدة، وخاصة عندما يتم توظيف الكلمات فى سياقات ثقافية وأيديلوجية معينة. ومصطلح “الفطرة” طالما كان أحد المصطلحات موضع اهتمام الفلسفة وعلم النفس والأديان والعلوم السلوكية ودراسات النوع الاجتماعى. وسبب هذا الاهتمام المحاولات الدائمة لتحديد دوافع وسلوكيات البشر وما يشكل الهوية والتميز والمكانة، هل هى الموروثات الجينية (أى الحالة الطبيعية)؟ أم المكتسبات الثقافية والاجتماعية؟ أم الاثنين معا؟
وبالمعنى اللغوي فإن كلمة فطرة Innate تعنى الحالة الطبيعية للكائن بدون تدخل من البيئة المحيطة، وقد قال بعض الفلاسفة أن ثمة أفكار فطرية أو ذكاء فطرى، وعارض آخرون هذا الرأى باعتبار أن الأفكار لا يمكن إلا أن تكون مكتسبة، باستثناء بعض الدوافع الغريزية التى تدفع الكائن الحى إلى اعتماد سلوك معين أو التصرف بطريقة معينة للبقاء على قيد الحياة. وهذا ما تعبر عنه بشكل أوقع كلمة الغريزة والتى هى حسب موسوعة علم النفس للدكتور عبد المنعم حفنى “دافع حيوانى ومحرك فطرى”، وتعنى حسب معجم مصطلحات التحليل النفسى: “ترسيمة سلوكية موروثة، خاصة بنوع حيوانى معين، لا تتباين إلا قليلا من فرد إلى آخر (ضمن النوع نفسه) وتجرى تبعا لمسار زمنى يندر تعرضه للانقلابات، وتبدو وكأنها تجيب عن غائية (هدف) معينة”. والأمثلة على ذلك كثيرة، بداية من الغرائز الجنسية وحتى السلوكيات التى تحافظ على بقاء الكائن حتى ولو لم يكتسبها بالتعلم والتجربة.
وبالنسبة للغة العربية فإن الفِطْرةُ تعنى الخلقة والابتداء أو الاختراع (لسان العرب ومختار الصحاح)، ووفق لسان العرب فإن الخلقة هى الحالة التي يُخْلقُ عليها المولود في بطن أُمه وتسمى الفطرة الأولى، أما الفطرة الثانية فهى فطرة الإيمان بالله واعتناق الإسلام. وهكذا يتم الربط بين بين الموروث الطبيعى والمكتسب الثقافى وفى هذه الحالة العقائدى، وهذا المعنى نجده فى كتاب التعريفاتللجرجانى الذى يعرف الفطرة بأنها “الجِبِلة المتهيئة لقبول الدين”. ولذا فإن كلمة “فطرة”، على عكس كلمة غريزة، من الكلمات التى يصعب فهمها خارج سياقها الثقافى بسبب إضافة البعد الثقافى إلى البعد الطبيعى، أو لنقل بسبب حمولتها الثقافية والفقهية. وربما تكون من الكلمات غير المتفق على ترجمتها ضمن سياقات ثقافية أخرى، ويبرز ذلك فى ترجمات القرآن إلى الإنجليزية حيث يتم ترجمة الكلمة بأكثر من طريقة، فعلى سبيل المثال فإن ترجمة ما ورد فى الآية الكريمة من سورة الروم ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”، سنجد ترجمات متعددة لكلمة الفطرة مثل “الطبيعة السليمة” أو “صنع الله” أو أن يلجأ المترجم إلى استخدام كلمة فطرة كما هى، أى Fitrah. أما كلمة غريزة، وإن حملت دلالات ثقافية وأخلاقية، إلا أنها أقل تعقيدا من الناحية اللغوية، فهى تعنى فى لسان العرب الطبيعة أو القريحة من خير أو شر.
وثمة تداخل كلمتى “الفطرة” Innate و”الغريزة”Instinct، وهذا التشابه يرتكز على أن كل منهما يرتبط بالحالة الطبيعة أى قبل تأثيرات البيئة والثقافة. ومع ذلك فإن المعنيين “اللغوى” و “الاصطلاحى” لكل منهما يكشف عن تباينات، وهذه التبيانات تعكس مواقف ثقافية وفكرية ذات صلة بمسألتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالأفكار مقابل الدوافع الطبيعية، والثانية تتعلق بثنايئة الخير والشر أو الإيجابى والسلبى. فالفطرة، فى العادة، مصطلح ايجابى، أما الغريزة (أو الغرائز) فهى مصطلح، فى العادة، سلبى، وخاصة فى الخطابات الأخلاقية والدينية، فنحن نتحدث عن الفطرة “الإنسانية”، أما الغرائز فعادة ما يتم وصفها بأنها “حيوانية”؛ والفطرة ساكنة ومسالمة وكثيرا ما نقول “الفطرة السليمة”، أما الغرائز فقابلة للاستثارة والتهيج ولهذا فهى فى حاجة إلى ترويض وتقييد، وكأن الغريزة فطرة “منحرفة” أو “قابلة للانحراف”. ومن المنظور الدينى فإن كلمة “الفطرة” محملة بالثقافة بشكل ملحوظ، وعادة ما يتم استخدامها لتثبيت هويات معينة مثل الهويات الجندرية، بمعنى أن الاختلافات بين الرجال والنساء هى اختلافات فطرية يصعب تغييرها، وفى خطابات أخرى يجرى التركيز على التمايزات الفطرية بين الأعراق والأجناس، وحتى على مستوى تصنيف البشر إلى أسوياء ومنحرفين.
وفى لغة الحياة اليومية فإن الكلمات الدالة على الفطرة والغريزة لا تفصل بين ما هو موروث وما هو مكتسب حيثتظل هذه الكلمات محملة بأحكام قيمية ايجابية أو سلبية،فنقول عن شخص عفوى بأنه على “سجيته” وهى كلمة إيجابية تنطوى على حسن النية، بينما يتم وصف شخص بأنه “جبلة” وهو ما ينطوى على دلالات سلبية بمعنى عدم الإحساس أو اللياقة”، أو الافتقار إلى الثقافة والتحضر فى السلوك. كما يمكن أن نطلب من شخص أن يتصرف على “طبيعته” أى بدون تكلف بغض النظر عما إذا كانت هذه الطبيعة تتضمن ما هو موروث بالمعنى الجينى أو مكتسب بالمعنى الثقافى. كما نسمع من يقول “كسفت طبيعتى”، وكأن الحجل قد أصاب عمق الشخص.
أما عن المعنى الإصطلاحى لكلمتى “الفطرة” و “والغريزة” فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، فسوف يتم تناوله فى المقال القادم.