باحث في موسيقى الألحان القبطية
مـدرس مــــادة اللــــحن الكنــــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيـة
في هذه الدراسة نحاول أن نستخرج الأفكار العديدة عن لحن (تي شوري) السنوي؛ بحيث يستطيع المُصَلي أن يجد في كل قداس فكرة معينة جديدة يتأمل ويصلي بها.
لحن (تي شوري) مدته حوالي دقيقة أو دقيقة ونصف، نحاول أن نُوجِد فرصة للتأمل في هذا اللحن الجميل، نتأمل في بركات الخلاص، وعن تفاصيل الشورية ودلالاتها العقيدية، وعن الطقس المصاحب لهذا اللحن، وما يعنيه من معاني روحية.
وفيه نتأمل في إنتشار الكرازة على يد القديس بولس الرسول، أو نفهم لماذا وُضع هذا اللحن على هذه الكلمات، ونعرف ربط الكلمة باللحن؛فيساعدنا على الفهم والصلاة بالروح، أو نتعرف على الآيات الكتابية التي تشرح أهمية البخور في الصلاة، كذلك نستطيع أن نجد الفرصة للتوبة والاعتراف عن الخطايا أثناء دورة البولس، حينما يرجع الكاهن الى المذبح ليُقدم إعترافات الشعب أمام الله، فنُردد هذا اللحن بروح التوبة، فنستطيع أن نسبح بفهم وروحانية، ونتشوق لحضور القداس الإلهي بروح تأمل جديد، حتى ننهل من ينبوع التسبيح والصلاة، ونرتفع بالروح للتأمل في السمائيات.
البعد اللغوي:
اللحن مقسم الى أربع جمل، الجملة الأولى “تي شوري إننوب تى تي بارثينوس” أي (المجمرة الذهبية هي العذراء)،
والجملة الثانية “بيس أروماتا بى بينسوتير”(وعَنبرُها هو مخلصنا)،
والثالثة “أسميسي إمموف أفسوتي إممون” (ولدته وخلصنا) والملاحظ أن هذه الجملة مقسمة إلى جملتين صغيرتين، متساويتين تماماً، ومتقاربتين في الحروف، وفي الإيقاع اللغوي كأنهما جزء من الِشعر تعطي طعماً جميلاً في التعبير اللغوي، والملحن هنا تعامل بحكمة وبساطة.
والجملة الأخيرة “أووه أفكانين نوفي نان إيفول”(وغفر لنا خطايانا) وهذه الجملة تعتبر أطول جملة لحنية؛ حيث أنها تُعتبر غاية وهدف اللحن، ونلاحظ أن المُلحن وضع الأربع جمل اللحنية متوازية مع الأربع جمل الكلامية.
كذلك تتميز الألحان القبطية بأنها ألحان تعبيرية، أي أن النغمات تعبر عن الكلمات، وهذا يتضح من الآتي: التركيز على الأفكار والكلمات الأساسية، فنجد أن المُلحن اهتم بكلمات معينة في لحن “تي شوري” أكثر من غيرها، في التطويل، وفي القفزات اللحنية، وفي تكرار وتأكيد النغمات، فبالنسبة للتطويل نجده في الكلمات التالية: “تي بارثينوس” (العذراء)، و”بين سوتير” (مخلصنا)، “نان”(لنا)، “إيفول” (خارجا تماما)
أما بالنسبة للقفزات اللحنية في كلمتي “بيس أروماتا”(عنبرها)، “أسميسي إمموف”(ولدته)،
أما التكرار فنجده في كلمة “أووه أفكا”(وَتَرَكَ) وفي الحرف “e” الموجودة في كلمة “إيفول” (تماماً)، وهنا نجد أن هذه الكلمات فعلاً قَصَدَها المُلحن وأظهر فيها فكر الكنيسة في هذا اللحن؛ كما سنوضح في الجزء الموسيقي.
وعن لغة اللحن فهي اللغة القبطية ماعدا ثلاث كلمات يونانية وهي: “بارثينوس” والتي تعني معاني كثيرة في المعاجم اللغوية: البِكر، العذراء، الفتاة، الشابة، أو المرأة التي وَلدت مرة واحدة، أو المنقطعة إلى الله عن الدنيا، وكل هذه المعاني تعبر عن القديسة العذراء مريم،
وكلمة “أروماتا” التي تعني شذا، عَبير، عِطر، رائحة زكية، أو توهج الطِيب (كلمة طيب جاءت منها كلمة طوبى أي شيء ممدوح يبعث على السعادة)،
أما كلمة :”سوتير” (savior)تعني مٌخَلِص، مُنقذ، فادٍ
البعد التاريخي:
في الكنيسة القبطية توجد “ليتورجيتان” ليتورجيا الموعوظين (يغلب عليها الطابع التعليمي والوعظي والكرازي)، وليتورجيا المؤمنين (أو الأفخارستيا بالقبطية ” الأنافورا” رفع الإنسان إلى فوق)، يرى البعض أن القسمين كانا منفصلين في جميع الكنائس، وتلاحما معاً في القرن الرابع، حتى صارا يمثلان طقساً واحداً، يقول العلامة أوريجينوس (185 – 254 م) ” أنه في قداس الموعوظين تُخطب النفس للرب يسوع، وفي قداس المؤمنين تَدخل النفس معه في رِباط الزوجية”، معنى هذا أن قداس الموعوظين كان موجودا بصورة عامة خلال القرن الثالث الميلادي.
وفترة القراءات طقس موجود من أيام القديس يوستينوس الشهيد (100– 165م)، والعلامة اكليمندس السكندري ( 150- 215 م) ، القديس البابا أثناسيوس الرسولي( 328 –373) الذي أَعطى قانون للقراءات الكنسية، يُعتبر أقدم قانون قراءة في الكنيسة عامةً، و في أيام كل من القديس باسيليوس الكبير، ( 330– 379 م )، والقديس ذهبي الفم (330 -407 م)، والقديس يوحنا كاسيان ( 360- 435م )، وبالنسبة لدورة البولس فقد كانت العادة قديما أن يتبع الكاهن أثناء مباركة الشعب شماس يأخذ ما يُقدمه له الشعب من عطايا ونذور الكنيسة، كما كان الكاهن في هذه الأثناء يتقبل إعترافات من يعترف له بزلة، أو هفوة، أو خطية عرضت عليه، ولنعرف أن الشعب في القديم كان يهتم كل الاهتمام بالإعتراف إلى الكهنة، أولاً ليتذلل بسبب خطاياه؛ ولذلك يُصلى الكاهن عند عودته سر إعتراف الشعب سراً، فيطلب من الله أن يقبل إعترافات الشعب، ولذلك فالكنيسة تُصلى لحن (تي شوري) الذي يختتم بقوله: وغفر لنا خطايانا؛ لأن في الطقس يعترف الشعب بخطاياه..
حينئذ يسبح بهذا اللحن ذاكراً خلاص المسيح وغفران الخطايا التي تاب وإعترف بها وأخذ الحل عليها.
في مخطوط ترتيب البيعة في الدار البطريركية تاريخه يرجع الى 1444 م “وبعد رفع البخور، يقولون الألحان الآتية”، معنى هذا أن رفع بخور البولس كان يقال جهراً ثم بعده تقال الالحان جهراً.. أما في الكتب الحالية فيقال : “بينما يذهب الكاهن ليرفع البخور، يقولون الألحان الاتية”؛ أي أن صلاة الكاهن تُقال سراً ونفس الوقت تُقال الألحان من الشمامسة والشعب جهراً، المراجع الطقسية القديمة قالت:” يُقال لحن طاي شوري وإذا كانت هناك فُسحة من الوقت يقولون تي شوري”؛ أي أن اللحنان كانا يقالان معاً، كذلك لحن (انثو تى تي شوري) كان يقال على مدار السنة كلها، ولكن حالياً يُقال لحن (طاي شوري) في أيام السُبوت والآحاد، وفي الأعياد السيدية، ولحن (تي شوري) في باقي الأيام السنوي، وسُبوت وآحاد الصوم الكبير، و(انثو تي شوري)يقال في باقي أيام الصوم الكبير.
البعد الروحي والكتابي:
يقول القديس بولس:”عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد”(1تي 3 : 16 )، الله لايموت ولكنه أخذ جسداً ليستطيع أن يموت، وهذا من أجل حبه للانسان “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من ُيؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية” (يو3 : 16)، في تجسده إتحد بنا وسكن داخلنا.. وبدون الفداء والخلاص سيصبح الإنسان مائتاً إلى الأبد،
كما يقول القديس بولس الرسول: ” الله وهو غني في الرحمة، فبسبب محبته العظيمة التي أحبنا بها، واذ كنا نحن أيضا أمواتا بالذنوب أحيانا مع المسيح إنما بالنعمة أنتم مُخَلَصون” (أف 2 : 4 ، 5)
الله إختارنا للخلاص، وبموجب قصده ونعمته كما يقول: “أما نحن، فمن واجبنا أن نشكر الله على الدوام من أجلكم، أيها الاخوة الذين يحبهم الرب، لأن الله إختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح لكم وإيمانكم بالحق”( 2تس 2 : 13)، “فهو خلصنا ودعانا إليه دعوة مقدسة، لا على أساس أعمالنا، بل بموجب قصده ونعمته التي وهبت لنا في المسيح يسوع قبل أزمنة الأزل، والتي أُعلنت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح، الذي سحق الموت وأنار الحياة والخلود بالأنجيل” (2 تي 1 : 9، 10).
ونحن في لحن (تي شوري) نقول أن المسيح خلصنا، وهنا نذكر بركات الخلاص والفداء فقد رُفع المسيح على الصليب ليحمل عقاب خطايانا، ومات بدلا عنا وسُفك دمُهُ كي يجددَنا كما يقول الكتاب ايضا: “بدون سفك دم لا تَحص
…