سجلت ريشة الوحي في (مت 2:1) لما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلي أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ والمجوس كلمة فارسية تعني كهنة وهم في الأصل إحدي قبائل مادي, وهم جزء من الإمبراطورية الفارسية, حاولوا الثورة علي الإمبراطورية للتخلص من النفوذ الفارسي, ولكن محاولاتهم باءت بالفشل, ومنذ ذلك الوقت صاروا قبيلة من الكهنة في خدمة دين زرادشت وعابدي النار, وكانوا معروفين بثيابهم الخاصة, وسكناهم المنفرد عن الناس.
ولا شك أن قصة المجوس في منظومة الميلاد قصة ثرية بالمدلولات اللاهوتية, وزاخرة بالدروس المفيدة الجميلة لحياتنا الروحية, أذكر منها الآتي:
أولا: الله يقدم محبته ونعمته لكل خليقته
لقد جاء المجوس من بلاد فارس في تتبع مسار النجم الذي ظهر لهم في المشرق, وبالتالي يمكن أن نصفهم بأنهم مجموعة من خطاة الأمم البعيدين عن الله, وجاءوا إلي وليد بيت لحم معلنين إيمانهم به, أو يمكن أن نطلق عليهم أنهم هم باكورة الوثنيين الداخلين إلي الكنيسة.
وهنا تظهر نعمة ومحبة الله المقدمة لجميع الأمم كما هو مكتوب في (يو3: 16) لأنه هكذا أحب الله العالم حتي بذل ابنه الوحيد, لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.
ثانيا: الله يتعامل مع كل إنسان باللغة التي يفهمها
كان المجوس جماعة من علماء الفلك, كانت اهتماماتهم بدراسة النجوم والكواكب ومراقبة تحركاتها, ولهذا يمكننا القول إن لغة النجوم هي لغتهم, هي اللغة المعروفة والمفهومة لديهم, ولهذا عن طريق النجم كلمهم وقادهم الرب إلي بيت لحم حيث وليد المذود.
نعم! لقد كلم الله الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة, وكلمنا في هذه الأيام الأخيرة بأن أخلي نفسه آخذا صورة عبد … صائرا في شبه الناس … ووجد في الهيئة كإنسان (في4:7), فلقد استخدم الله اللغة التي يفهمها الإنسان ليعبر له عن محبته.
مطلوب من الكنيسة أن تتعلم وتتدرب, كيف تتجسد وتتلاقي وتتلامس مع العالم كله؟ وكيف تخاطب الناس وتستخدم أدوات العصر لتقديم الرسالة غير المتغيرة للعالم المتغير؟ وفي يقيني عندما يكون التجسد أسلوب حياة الكنيسة, فلسوف تصبح خدمتها قوية وفعالة ومثمرة ومؤثرة.
ثالثا: الله يستخدم وسائل لا تخطر علي بالنا لتقودنا إليه
لست أظن أن النجم من مهامه أو وظائفه أن يقود الإنسان إلي المسيح, لكن الرب استطاع أن يستخدم النجم ليقود المجوس إلي وليد بيت لحم, فمكتوب في (مت 2:29) وإذ النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتي جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.
نعم! إن الله يمكن أن يستخدم ما لا نتوقعه وما لا نتخيله في إتمام رسالته, فلقد استخدم قديما:
عصا موسي في قصة خروج شعب الله ( خر4:4, 16:8, 17, 5,9) … عامود سحاب, وعامود نار’ لقيادة شعبه في القديم (خر 13: 20 ـ 22)… الغراب في إطعام إيليا ليستكمل رسالته… (1مل 17:4) وأعد الله عاصفة ـ حوت ـ يقطينة ـ دودة في قصة يونان ليؤدي رسالته … كما استخدم الله صياح الديك ليعود بطرس بعد إنكاره للسيد (مت 26: 69- 75), ولعله يوما أمر سمكة أن تبلع إستارا ليقوم بصيدها بطرس في يوم آخر ليسدد عنه وعن يسوع الجزية المطلوبة.
واليوم يستخدم الرب أساليب وأدوات وطرقا ولغات بعدد البشر ليكلم كل واحد بالطريقة التي تناسبه.
رابعا: أثمن ما نملك يجب أن نقدمه للرب
مكتوب عن المجوس في (مت 2:11). فخروا وسجدوا له ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا.
البعض من أصحاب المدرسة الرمزية قالوا:
إنهم قدموا ذهبا وهي هدية يقرون فيها بأن المولود ملكا حتي وإن كان في مذود بسيط, وليس في قصر جميل, وقدموا لبانا وهي هدية الكهنة ورمز النقاوة والطهارة, وقدموا له مرا وهو هدية النبي أو الإنسان الذي سيتألم ويموت, وهي تشير إلي المسيح كمخلص وفادي جاء إلي عالمنا ليموت عنا. والبعض قال إن تقديم هذه الهدايا يرمز إلي تقديم الإيمان, والرجاء, والمحبة, وآخرون قالوا إنها تشير إلي الجسد, والنفس, والروح.
مهما كانت التفاسير عن نوعية الهدايا التي قدمها المجوس… المهم يبقي السؤال ماذا نقدم نحن إليه اليوم؟!… في يقيني أن الإجابة نجدها في النداء الإلهي: يا ابني أعطني قلبك ( أم 26: 23).
خامسا: قيمتنا في معرفتنا الاختبارية بالرب يسوع
قال البعض إن المجوس كانوا ملوكا, وقال آخرون إنهم كانوا من شرفاء ونبلاء القوم, كانت لهم مكانتهم المرموقة في المجتمع, وبالرغم من هذا بحثوا وفتشوا وسعوا ليروا يسوع وليد بيت لحم, وعندما رأوه خروا وسجدوا له (مت2 :11), وكأنهم أدركوا أنهم في معرفتهم به امتياز ما بعده امتياز, نعم إن الحقيقة التي لا يشوبها أدني شك هي أن قيمة وعظمة الإنسان ليست في مكانته أو إمكاناته مع تقديرنا العظيم لكل هذه البركات, إنما عظمة الإنسان ومكانته هي في التعرف علي الرب معرفة شخصية اختبارية, فمكتوب أرفعه لأنه عرف اسمي.
لم يسجل لنا الوحي أسماء المجوس, لكن يكفيهم شرفا وفخرا أن أسماءهم ارتبطت بوليد بيت لحم… وكل واحد اختبر خلاص الله يكفيه امتيازا أن اسمه مكتوب في سفر الحياة.
سادسا: من يختبر ميلاد المسيح يعرف مذاق الفرح الحقيقي
سجل الوحي عن المجوس أنهم لما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما (مت2: 10), فكم بالحري عندما التقوا به وجها لوجه, بالتأكيد كانت فرحتهم غامرة تفوق الوصف.
نعم! كل من يختبر ميلاد المسيح في حياته يعرف الفرح الحقيقي, ويختبر القول الكتابي تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد (1بط 1:9) وخير برهان علي هذا ما سجله الوحي عن زكا العشارعندما دعاه يسوع, مكتوب أنه أسرع ونزل وقبله فرحا (لو5: 19) وأيضا الوزير الحبشي بعد ما كلمه فيلبس وآمن بالرب رجع في طريقه فرحا (أع 39: 8) وسجان فيلبي بعد ما اختبر خلاص الرب بعد حديث الرسول بولس معه سجل الوحي عنه أنه تهلل هو وأهل بيته (أع 34: 16) وغيرهم الكثير والكثير … فهذه شهادة كل إنسان اختبر نعمة الحياة الجديدة في المسيح يسوع.
سابعا: رائع أن تكون قلوبنا هي عنوان الميلاد
جاء المجوس من بلاد المشرق, حيث وليد بيت لحم, بعد رحلة شاقة مضنية عبر الجبال والبحار, والوديان والقفار في الليل والنهار, في وسط المخاوف والأخطاراستغرقت بحسب رأي الكثيرين من المفسرين قرابة السنتين, في نفس الوقت كان هناك أناس علي مسافة خطوات قليلة بينهم وبين يسوع, ومن أسف لم يكلفوا أنفسهم بأن يذهبوا إليه ويروه, بل أكثر من هذا رفضوه ولم يقبلوه, وانطبق عليهم القول: إلي خاصته جاء وخاصته لم تقبله, وأما كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله (يو11: 1, 12).
ولعل البشير لوقا غمس قلم الألم في حبر المرارة ليسطر في أسي عميق التعبير المفجع المحزن الذي سجلته الأجيال, وكتبه التاريخ لم يكن لهم موضع بالمنزل (لو2: 7).
كانت الأبواب كلها موصدة في وجهه, ولم يجد سوي المذود البسيط, وإنني أرجو أن لا نعتب كثيرا علي سكان بيت لحم, فهل لي أن أقول في انكسار قلب, وانسحاق نفس إنه أيضا في مرات كثيرة هي خطيتنا جميعا, فكم من أناس ولدوا وتربوا في بيوت مسيحية وهم قريبون من المسيح, لكنهم من أسف بالاسم فقط لم يتقابلوا بعد بالرب كمخلص شخصي, ولم يفتحوا قلوبهم لعمل روح الله فيهم.
آه! فلئن كنا نسمح لأنفسنا ـ بغير حق ـ التماس بعض الأعذار لسكان بيت لحم, في عدم ترحابهم بيسوع فأي عذر نستطيع أن نقدمه اليوم عندما نرفض أن يدخل الرب في حياتنا وبيوتنا؟!.
نعم! سيظل المسيح في دنيانا أمام باب مغلق طالما بقي الذين دعي عليهم اسمه العظيم لا يعرفونه معرفة شخصية, ولم يختبروا بعد حلاوة الحياة فيه وبه وله, وطالما ظل الحب الخالص النقي أسطورة يرددها الخيال, ومجرد كلمات تسطرها أقلام الشعراء.
عبرة في عبارة:
{سيظل المسيح يبحث عن عنوان لميلاده مادام الباطل يظهر في قناع الحق, وما بقي الصدق سجينا خلف أسوار الرياء والنفاق, وما بقيت الشجاعة مكبلة بقيود الخوف علي المصالح والمنافع الشخصية, وطالما بقي الإيمان مجرد شعارات جوفاء بغير ممارسة يومية عملية}.