رأيتها تحترق وشممت أدخنة الحسرة في أنفاسها, احتضنتها فلم يكن لها حضن, وللساقطات أيضا رحمة, هكذا علمنا السيد الرب, الذي لم يلم من أمسكوها في ذات الفعل, ولم يوبخ زوجة الرجال الخمس, التي صاحبت السادس بلا زيجة, لكن المجتمع من قديم الأزل لا يغفر للمرأة, بينما يسامح الرجل, بالرغم من أنه ليس امرأة ساقطة بلا رجل ساقط أيضا.
هالة.. شابة في نهاية الثلاثينيات من عمرها, تحيا وحيدة في شقة إيجار جديد في إحدي المناطق الشعبية, تراكمت عليها الديون فواتير مياه, كهرباء, إيجار هذا بخلاف الاحتياجات اليومية العادية, الظروف العصيبة التي مرت بها منذ تفاصيل زيجتها, دفعتها لليأس, بعدما انهارت أحلامها في رجلها, كان والدها يعمل حارسا لأحد العقارات, يحيون جميعا في حجرة أرضية, الوالد والوالدة والابن الأكبر وأربع بنات هالة أصغرهم, إلي أن ابتسمت لهم الأيام, وتزوج الابن وكل البنات ما عدا هالة, وتمكنت الأسرة من الحصول علي شقة سكنية مستقلة في عقار آخر, ليعيش الوالد في العقار محل عمله, والوالدة وهالة, في السكن الجديد. لم تمض الأحوال بيسر, فغالبا تأتي المعكرات والمنغصات مع الانفراجات المادية, وأصيبت الأم بجلطة في المخ أدت لشلل, لم يكن من الممكن خدمتها منزليا فالكل له حياته, ولا يوجد من يقوم علي خدمتها, تقول هالة:
في الوقت ده كنا بنوضب في الشقة, وكنت بأرعي أمي, ولما تممنا التوضيب, فوجئنا بتدهور شديد في حالة أمي, ومع استعمال الحفاضات, دخلناها دار مسنين, وهناك اتحسرت علي روحها, وماتت, كل شيء عدي بسرعة, وظروف مرضها خلتني مرتبكة ومش عارفة إيه إللي بيجري لي, في الوقت ده كان في سباك بيوضب الشقة لنا, وارتبطنا عاطفيا, ووقعت معاه في علاقة, وفوجئت أني حامل, ولأنه متزوج كانت أزمة كبيرة, لا أقدر أتخلص من الطفل, ولا أقدر أتجوزه, وبدأت أدفع تمن غلطتي من أعصابي وخوفي علي ابني, إللي لسة ماشافش النور, بدأت أشوف اللذة جمر نار بيكوي ضميري وحياتي كلها, لكن ماعنديش اختيارات, والحقيقة أنه لم يتخل عني, صمم يسترني, رحنا لمحام قال ممكن تتجوزوا بعقد مدني, ونوثقه, وفعلا تممنا الزواج ووثقناه, وبكده ضمنت أن ابني يجيي للدنيا بدون عار.
صمتت هالة والتقطت أنفاسا متتالية عميقة, وكأنها تتذكر رحلة المعاناة التي تكبدتها بسبب لحظة نشوة عابرة, لم تدرك في خضم مرض والدتها أن اللحظة أنبتت ثمرة, وتصوت أنها عادت منتصرة, وعلي الجانب الآخر تقف امرأة أخري محزونة تقاسمت زوجها معها, فالرجل كان متزوجا من أخري ولديه ابن عمره عشر سنوات, ولا يمكن التطليق إلا إذا ثبت الزنا, وأرادت الزوجة المخدوعة الانفصال, لكن كيف وإلي أين المفر؟ فكل منهما راضية.
مضت الأيام وعاشت هالة بمفردها مع زوجها الذي يزورها مرة في الأسبوع, فلم يعد لها الحق في سكن والدها بعدما أصابتهم بالعار, ولم تعد لها الجرأة علي الاقتراب إلي أي منهم, ومرت الشهور, وجاء موعد الولادة, لتصطدم هالة بالتخلي, فالزوج والحبيب, رفض تدوين ولده في شهادة الميلاد حاملا اسمه, تراتيل الحسرة ترن في أذني هالة, كل المشاعر صارت مكشوفة, كل الشهوات صارت تنصلا, وتحولت المتعة واللذة إلي كرابيج تجلد فيها الأمومة يوما بعد يوم, تذكرت أن شقيقتها الكبري لم يكن لها حظ من الإنجاب, عرضت عليها وعلي زوجها, تدوين الطفل باسميهما, ورغم الحل السحري الذي لم يأخذ مساره, بسبب سوء العلاقات بينهما, لكن دائما للسماء حلول أخري.
ذبلت هالة, وذبل الولد معها, وتم وضعه في الحضانة, عاش 23 يوما ثم رحل بعدها عن العالم, لم تستدع الوالد لدفنه, فقد رفضه حيا فلن يأخذه ميتا, مات الولد وتصورت هالة أن العار واللوم والحيرة رحلت أيضا عن حياتها, وعادت وحيدة إلي منزلها الذي استأجره الزوج الهارب لها, لكنه لم يهرب, عادت لتجده يستقبلها مرحبا بها, معللا نذالته بأن الوضع غير قانوني وقد يزج به إلي السجن, ألم يكن في ذهنه حينما سقط, وأغواها أن الوضع غير قانوني؟ ألم يجل بخاطره, أن السجن ينتظره للجمع بين زوجتين في شريعة لا تبيح تعدد الزوجات؟
رفضت هالة الضعيفة الحزينة ذلك الوضع المخجل, رفضت العودة, لكن العقد المبرم لدي المحامي لايزال قائما, وهي وحيدة, بلا عمل, ولا قدرة علي الحياة, ولا عائل, ولا تستطيع مواجهة الناس, ولا طلب العون من أسرتها التي تبرأت منها, حتي إنها سقطت مغشيا عليها منذ شهر, وكان التشخيص المبدئي قصورا في الشريان التاجي, فالتجأت لنا وقمنا بمساعدتها لإجراء الفحوص العميقة اللازمة, وأظهر أنها بحالة جيدة, لكنها تعاني من أنيميا وضعف حاد بسبب فقدان جسمها لعناصر غذائية أساسية, بالإضافة لحالة اكتئاب شديد, هالة تحتاج من يساعدها دون أن يذكرها بماضيها التعس.