تحدث البطريرك باسيليوس منصور بطريرك إيبارشية عكار وتوابعها للروم الأرثوذكس فى عظته الاسبوعية اليوم عن علاقتنا بالمعمودية، وبدأ حديثه قائلا:
“الإخوة والأبناء الأحباء
يتساءل الكثيرون ما هي علاقتنا بمعمودية ربنا يسوع المسيح من يوحنا المعمدان، وماذا يمكننا أن نستفيد منها نحن الذين نقيم لها كل هذه الاحتفالات (في الكنيسة وخارج الكنيسة، في البيت وخارج البيت) بالطبع ليس لها علاقة بمعموديتنا اليوم سوى الشكل وهو التغطيس بالماء، ورمزية مغفرة الخطايا، لأن معموديتنا نحن وباعتراف يوحنا المعمدان هي أسمى من المعمودية التي كان يجريها على البشر في ذلك العهد. معمودية يوحنا المعمدان تقابل في عصرنا المسيحي سر التوبة الى حدٍّ كبير. كان الناس بحسب اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم يأتون ويعتمدون من يوحنا بعد أن يقروا بخطاياهم ثم يرشدهم يوحنا الى ما عليهم أن يفعلوه حتى يغيّروا حياتهم. كما كانت معموديّة يوحنا تهيئة لقبول الملكوت الآتي، ولكن الدخول الى الملكوت الآتي لا يمكن فقط بالماء، فقد أقرَّ ربنا يسوع المسيح لنيقوديموس بهذا الاعتراف فمن يريد الدخول الى الملكوت عليه أن يولد من الماء والروح “الحق الحق أقول لك إن لم يولد الواحد من الماء والروح لا يدخل ملكوت السماوات”. إذاً معموديّة يوحنا كانت للتوبة، وبالتالي للتهيئة. أما المعمودية التي نأخذها نحن، ففيها معاني كثيرة. يصبح الإنسان فيها شريكاً للحياة الثالوثية والولادة الجديدة بعد أن يدفن الإنسان رمزياً مع السيد ثلاث دفعات كرمز للثلاثة الأيام، وكذلك إشتراك بقيامة السيد مع معاني كثيرة أخرى.
ثم يأتي تطبيق الآية العظيمة التي تفوّه بها ربنا يسوع المسيح نحو يوحنا المعمدان، عندما منعه من الأتيان إليه الى المعمودية، وقال له أنا محتاج أن أعتمد منك أأنت تأتي إلي! فقال له ربنا يسوع المسيح دع الآن يجب أن تتمم كلَّ بر. وهنا لم يحدد ما هو الذي يجب إتمامه. فإتمام البر يعني أشياء كثيرة منها الأخلاقية، والمقدِّسة العباديّة إلخ… يعني أن نعمل كل شيء مرضي لله. بعد مجيء ربنا يسوع المسيح، وفدائه الخلاصي (العذابات والصلب والدفن والقيامة) تبين أن معموديّة يوحنا بلا إستمراريّة لأنها رمز للآتي، وتبطلُ قيمة الرمز عند حلول الحقيقة المرموز لها به.
أما المعمودية التي نأخذها باسم ربنا يسوع المسيح فتفتح لنا أبواب القداسة مشرّعة وكاملة، فقد كانت معموديّة يوحنا مكرّرة كما يتكرر سرُّ التوبة والاعتراف في حياة الواحد منا. أما المعمودية التي نأخذها فلا تتكرر لأنها تحقيق لسر الفداء في حياتنا، ويصير الإنسان بها كولادة جديداً على مثال ربنا يسوع المسيح القائم من بين الأموات. والبر بالتالي الذي نتممه لا يعود براً حادثياً بالمعموديّة ذاتها، وبحسب المفاهيم البشريّة، بل هذا البر يأخذ له مجالاً تصاعدياً وتتوالد أفعاله وطبقاته في شخص الإنسان بقدر ما يولد الإنسان في توالي مقامات القداسة.
إذاً معموديتنا إذ هي برٌ كامل تفتح لنا مغاليق أبواب المدينة الفاضلة أورشليم السماويّة، وترافقنا بقوة مواهب الروح القدس، وتنزهنا بين قصورها وأبراجها ومحاريسها وأسوارها. وفي كلِّ شارع من شوارعها ومكانٍ من أمكنتها حتى نصل في النهاية للإشتراك في المائدة المقدَّسة ونثبت في المسيح. فلا تعود أشياء البرّ ومسمياته تأخذ إرتباطاً حياتياً بشرياً ولا معاني هذا الدهر بل يجد الإنسان ذاته في عالم آخر يتحدّث عنه القديسون. مثلاً لا يعود البرُّ في العطاء فقط بل يمتدُّ الى التخلي، وبعد التخلي الى الغنى بالفقر الذاتي، هذه الحياة الجديدة إذاً لا تدرك بالمقاييس البشرية ولا نفهمها بالمعطيات العالمية بل علينا أن نسمع القديسين يتكلمون عنها من خلال خبراتهم الروحيّة. كانت كلمة الرب ليوحنا المعمدان قاطعة أن نتمم كلَّ بر ويعني هنا الأشياء بالاجمال، ولكن مع الجمع، المقصود هنا عمق الأشياء التي تدرك بالحواس الخمس الداخلية. إذاً نشترك بحياة الثالوث، وينكشف لنا الملكوت الآتي، وتتبين لنا الأشياء بحسب معانيها الحقيقية.
فهم المؤمنون منذ القديم هذه الحقائق، ولهذا كانت تسمية العيد بعيد الظهور الإلهي لأنه كان عيد الميلاد مع الغطاس دفعة واحدة، وهذا الظهور ينكشف حضوره في حياة الشخص بقدر ما يوغل في حياة القداسة فلا يعود فقط مبادرة من الله، بل مبادرة الله مجاوباً عليها بحضوره في حياة الشخص. وأكد ربنا يسوع المسيح على ذلك أن من يفتح قلبه له يأتي هو والآب ويصنعون عنده عشاءً ومسكناً، وبالتأكيد حيث الآب هناك الابن والروح، وحيث الواحد هناك الأقانيم الأخرى كما يؤكد القديس غريغوريوس اللاهوتي في تعليمه عن الثالوث الأقدس. وكذلك يؤكد القديس بولص الرسول في كلامه عن الثالوث الأقدس أن ما يعمله الواحد من الثلاثة يعمله الآخران لأن لهما إرادة واحدة، ومشيئة واحدة، كما طبيعة واحدة.
ولا يصل الإنسان الى ملء قامة المسيح، وينتقل من حالة الطفولة الروحية حتى يتنقل بين مراقي القداسة متمماً البرَّ كله بل ومدركاً البرَّ كله بأعمق أعماق معانيه.”