هل توقفت من قبل أمام كلمات المزمور ١٠٣: «باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس»، وتساءلت ما الذي يقصده داود بدعوته لنا أن نبارك الرب؟ لقد ذُكر الفعل ”يبارك“ بتصريفاته النحوية المختلفة في الكتاب المقدس حوالي ٦٠٠ مرة، وعندما تُرجم إلى اللغات المختلفة بدا مجردًا من معناه الأصلي.. وحتى نفهم ما قصده الكاتب عندما ناجى نفسه لتبارك الرب؛ علينا أن نعود إلى استخدام الوحي المقدس للكلمة في النصوص الأخرى.
والكثير منالكلمات العبرية لها علاقة بصورة ما من البيئة السائدة وقت كتابة النص.. نقرأ في تكوين ٢٤ أن أليعازر الدمشقي عندما وصل إلى مدينة ناحور ليخطب عروسًا لإسحق ابن سيده أنه «أناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء» (عدد ١١).. أي جعلها ”تبرك“، ومن هنا جاء الفعل ”يبارك“. والكلمة في اللغة العبرية تعني أن “تنحني أو تركع” عندما تُعطي لآخر شيئًا ذا قيمة.. وأعظم ما باركنا به المسيح ابن الله الحي أنه اتضع وقدم نفسه ليموت على الصليب من أجل خلاصنا. وفي المقابل، ما يمكن أن نباركه نحن به هو أن نُعطيه أنفسنا بالكامل؛ لنحبه ونعبده ونخدمه كل أيام العمر.
ذكرتني هذه الصورة بأيام الصبا، عندما كنت أصاحب أبي في موسم الحصاد لقضاء بعض الأيام في قريتنا الصغيرة بشرق النيل في صعيد مصر.. والكثير مما كنت أشاهده آنذاك من ممارسات لم يكن يعني لي شيئًا كابن وُلد وتربى في المدينة، لكنها اليوم أصبحتتضيء ذهني بمعاني تملأني بالبهجة، وتقودني لأفكر من منظور جديد في كلمة الله. كانت الجمال تأتي من الحقل مُحملة بالثمار (بالقمح عند بداية الصيف، وبقناطير القطن في الخريف)، وتدخل من بوابة بيت جدي الكبيرة إلى الساحة التي تتوسط بيوت أعمامي وعماتي، وهناك تبرك لكي يرفعوا عنها الحصاد وسط أناشيد الشكر والفرح، بعد تعب وكفاح أيام لم تخلُ من برد شتاء، أو لسعة شمس صيف قاس. وبعد أيام قليلة كانت الجمال تأتي وتبرك مرة أخرى في نفس المكان لتحمل ”التقاوي“ لتذهب بها إلى ”الغيط“؛ إيذانًا ببدء موسم جديد من مسؤولية العمل والاجتهاد، والاختبار المتجدد ليد الله تعمل، ليس فقط في حيازة أرض الأجداد، فتُنبت الحَب وتملأ السنابل بالقمح، بل وتعمل في حقل الحياة كله.
هذه الأيام الأواخر من ٢٠٢١ هي فرصتك لتجلس وسط عائلتك، وتناجي نفسك معهم بشكر بمفهوم الملك داود: ”اُبركي“ يا نفسي بكل ما فيك من فكر ومشاعر أمام إلهنا القدوس! وحتى لا تنسوا جميع حسناته؛ رددوا معًا إحصاء النعم التي غمركم بها الكريم في أيام مضت: نعمة النَفَس إللي طالع وداخل، نعمة اللقمة الهنية والهدمة ولو كانت بسيطة، نعمة الزوج أو الزوجة حتى ولو مع مشاكل قليلة، الابن أوالابنة ولو متمرد أو كثير الطلبات، نعمة الجار القريب والمحبة التي تفيض.. كل نعمة لا يمكن لمال أن يشتريها، أو لجاه أن يضمن وجودها في حياتكم. بهذا الفكر يمكننا أن “نبرك” أمامه لنقبل مجددًا عطية ومسؤولية ٢٠٢٢.
بالمناسبة، كلمة «حسناته» تمتد جذورها أيضًا في اللغة العبرية إلى كلمة ”الجمل“! الجمال في البيئة الشرقية كانت ولا تزال لها أهمية لا يمكن تجاهلها.. فهي سفينة الصحراء لكل مسافر يُريد أن يعبر برية رمالها ساخنة. ومع تقدمنا في العمر يختبر الواحد منا أن قطيع جمال ”حسناته“ هي التي حملتنا في العام الماضي فعبرناه بحلوه ومره، وهي نفسها التي ستعبر بنا عامًا جديدًا في الطريق إلى لحظة ننتظرها بشوق لنكون معه كل حين.. هناك مع كل أحبائنا الذين سبقونا وعبروا قبلنا إلى الجانب الآخر من النهر.
بالطبع من السهل أن نعدد بالشكر ما نراه بركات أنعم الله بها عليناخلال العام الماضي، وهذه ممارسة رائعة. لكن ماذا إذا كنت قد اجتزت بما لا تشعر أنك تستطيع أو تريد أن تشكر لأجله؟ عندما تُحيرنا ”لماذا“، ونقف عاجزين أمام عشرات علامات الاستفهام،نحتاج بلا شك لمعونة إلهية لنحصل على السلام الذي نفتقده، حتى وإن ظل الأمر بالنسبة لنا غامضًا. السر الذي يُطلق هذه المعونة فتعمل فينا هو إيماننا.. إن كنا نثق فيه، فلنتيقن إذن أنه لا يكذب، ولا يُفاجأ بما يحدث معنا، ويعنيه أمرنا، وبيده آجالنا. وقد لخص بولس الرسول هذا اليقين في أنشودته: «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون بحسب قصده»(من فضلك اقرأ رومية ٨).
هناك حوالي عشرة آلاف وعد في كلمة الله، ولأن الذي وعد هو أمين؛يمكننا أن نثق في كلمته. فإن كنت تصارع اليوم مع السؤال “كيف أشكر؟”، ما يمكن أن يضمد جراحاتك، ويجدد الأمل في داخلك، هو الثقة بأن الذي يُحب لا يسمح في النهاية بأن يهلك أو يضيع محبوه.. فإذا لم تجرب من قبل أن تشكر عندما لا تشعر أنك تستطيع ذلك،أدعوك لتجرب معي أن تفعل هذا منفردًا في محضر إلهنا، قبل أن تمضي سريعًا بقية أيام ٢٠٢١، وتتبعها بقية أيام العمر. الشكر ”بالرغم من“ صعب، لكنه يحوي سرًا إلهيًا يفجر داخلنا قوة تغيير تُعيننا؛ فنرتبط بما هو فوق ونطلبه بثقة، ونتعامل بما على الأرض بأسلوب يعكس سر الرجاء الذي فينا لمن هم حولنا.. ولننتظر بصبر حتى نفهم فيما بعد. في هذه المناسبة، أدعوك لتفتح أذنيك لتسمع صوته: «أنا أعرف ما نويت لكم من خير لا من شر، فيكون لكم الغد الذي ترجونه، فتدعونني وتجيئون وتُصلون إليَّ فأستمع لكم، وتطلبونني فتجدونني إذا طلبتموني بكل قلوبكم» (إرميا ٢٩: ١١- ١٣ – الترجمة العربية المشتركة).