مسارات الحزن طويلة, مرهقة, مواضع الشفاء خفية وأحيانا عصية , تفر علي أجنحة الفقد والنوح, حينما يرحل الأحباب, لكنها تعود محمولة فوق أكتاف الرجاء, كالحبل السري مربوطة في أعمق نقطة فينا, وإن متنا فمن الموت حياة, ومن الأحزان سكينة, يسكب روح الله نوره حينما تظلم السموات في ليالينا, لأن كل حزين يستغرق وقتا ثم يتراجع ويعود إلي حيث الذكريات, وتستمر الحياة لأنه ليس حزنا أبديا إلا ذلك الذي بلا رجاء.
هكذا عاد الرجاء إلي رجاء, السيدة التي أحبت رجلها حتي تزوجته أرملا يعول ابن وابنتين كانت صغيرة جدا, حينما تعرفا بعضهما إلي بعض, لم تمنع نفسها عن التعلق به, خمسة عشر عاما طويلة جدا مثل الفارق بينهما في السن خمسة عشر عاما, تزوج وأنجب ثلاثة أطفال خلالها, ولم تكن رجاء قد طالت سن المراهقة بعد, لكنها قفزت فوق حاجز السن, وفوق حاجز الزواج الأول, وتخطت ترمله, وحزنه علي زوجته الأولي, فقده المبكر لها, وجود أطفال ثلاثة ابنتين وابن, في أعمار لا تحتمل استبدال الأم الحقيقية بزوجة أم لكنها تمكنت من حل المعادلة الصعبة, واستطاعت الفوز بحب الرجل والأطفال حتي هذه اللحظة ينادونهاماما لم تقصر معهم وبشهادة الجميع, فمنحها الله رزقا جديدا من الأطفال, ولدان وبنتان, تبلغ الابنة الكبري حاليا21 سنة والصغري 16, أما الولدان 6, 8 سنوات.
كان الزوج مالك سيارة نقل, وابنه يعمل عليتريللا والظروف بها الكفاية إلي أن أصبح عددهم 9أفراد, الابن والابنتين من الزوجة الراحلة والوالد والوالدة, والأربعة أطفال الجدد.
خرجت رجاء للعمل, لتساعد زوجها ومرت السنون وصارت الابنة الكبري علي وشك الزواج, والصغار في احتياج الابن الأكبر مايكل يساعد قدر الإمكان, لكن الزيجة مهددة.
سعت رجاء لابنة زوجها كما لو سعي الرحم الذي حملها وتمت الزيجة بسلام, وبعدها زيجة الابنة الأخري فعلت ذلك بقلب الحب, قلب لم تمسه الغيرة,ولا الضغينة, وقالت أوصلت الأمانة التي تسلمتها حينما سلمتني الكنيسة لرجلي.
الضيق بدأ في تراجع لكن الحزن المرابض انتهازي معقد لايخطو إلي الوراء إلا بعدها يسحقنا بين شقي رحي, خرج مايكل إلي العمل وعلي طريق الإسماعيلية تركالتريللا ليجلب كوبا من الشاي, عبر الطريق غير عالم أنه العبور الأخير, حادث عابر لمن ارتكبه سيعود لبيته وينسي, لكنه هدم أسرة كاملة, ثم هرب, وضاع حق مايكل في أي تعويض, وفقدت الأسرة قلبها النابض زينتها وسند إخوته الصغار حلم شيبة أبيه, وابن شبابه, البكري الحيلة, وعطر الزمن الوردي من الأم الأولي.
انسحق قلب والده, سمرته المواجع فوق كرسيه لايفارقه وتسللت الأمراض إلي جسده, واستسلم لها برغبة واشتياق ليلحق بولده, لم يمض عام حتي لحق به إلي السماء وهجرت الأفراح قلوب الجميع, وبقيت رجاء تربي الأطفال الثلاث تساعدها ابنتها الكبري.
وتفرقت العباءات السود وجمهور المعزين وحيدة لحالها تنزوي تعصف بها التساؤلات كيف أقوي علي الفقد والمسئولية وحشة المغيب ولوعة الفراق تشدها إلي الوحدة بينما يجذبها ثقل الأحمال أربعة أفراد وهي الخامسة, صارت المسئولة الوحيدة عن الجميع.
مرت رجاء علي مدار الشهور الماضية بمراحل الحزن الخمس التي نمر بها جميعا حينما نتعرض لفقد محبينا والتي يعرفها عالم النفس الشهير كويبلر روس بأنها:
الإنكار-أنا بخير, لا يمكن أن يحدث هذا لي ثم يتحرك الشخص من الإنكار إلي الغضب:لماذا أنا هذا ليس عدلا من المسئول عن ذلك؟ثم ينتقل الفرد إلي مرحلة المساومة سأعيش لرؤية أطفالي يكبرون, ثم الاكتئابسأموت علي أي حال, ما الفائدة من أي شيء سأفعله؟,لقد رحل فلان, لماذا استمر بعده؟ بعد فترة يبدأ الفرد في المرحلة الرابعة وهي فهم حتمية الموت أو الفقد بشكل عام إلي أن يصل إلي مرحلة القبول:وفيها يقول لنفسهماحدث حدث ويجب أن أكمل الطريق,لا فائدة من المقاومة, من الأفضل أن أستعد لما سيأتي مع شعور بسلام وتفهم.
ورغم أن الحزن تجربة فردية والفقد تجربة فردية, تخنلف من شخص لآخر, في قوتها وجسامة نتائجها, والمدة التي تستغرقها المراحل الخمس المذكورة, إلا أن معظمنا يمر بنفس المراحل, ويصل إلي النتيجة النهائية وهي القبول يساعده في ذلك بذار الرجاء المزروعة فيه.
استعادت رجاء قبولها للواقع الذي صار أشد قساوة بعدما فقدت الأسرة عائليها في عام واحد, ومازال هناك ثلاثة أطفال يريدون الحياة, ويتلقون التعليم, وابنة كبري تمت خطبتها قبل وفاة أخيها وقبل الاستعداد لإتمام الزيجة مات وادها نعم إنه شتاء الحياة حينما يقرر إغراقها دموعا وحيرة.