الإنسان بطبيعته ينجذب نحو النموذج البطل الذي يحقق ما يعجز عنه الإنسان العادي, والأطفال خاصة هم أكثر فئة تنجذب نحو هذا النموذج بل وتتأثر به وتقلده وتتعايش معه في عالمه الخاص, وتتفاعل معه ويصل الأمر إلي أحلام اليقظة, فالطفل يقلد البطل أو يضع نفسه في موقف البطل ويحقق في الخيال ما يعجز عن فعله في الواقع. ومن هنا تأتي خطورة ما يقدم للطفل كنموذج للبطولة والتفوق.
فالأطفال يحبون (بات مان) و (سبايدر مان), وغيرهما من الشخصيات الكرتونية ونجوم الأفلام والمسلسلات, ويستمر هذا الأمر مع الأطفال إلي مرحلة المراهقة والشباب لكن بنسبة أخف وبنضج أكثر, هذا بجانب اصطدامه بالواقع الذي يتعارض مع تلك الخوارق التي يقوم بها البطل.
وجرت العادة أننا نطلق علي كل من يقوم بأعمال عظيمة أو خارقة أو تفوق غير عادي في مجاله, لقب الأسطورة, مثل أسطورة الملاعب, أسطورة السينما, أسطورة الطب, وبمجرد ذكر الأسطورة يتبادر لذهن كل واحد منا بحسب ميوله وانتمائه إلي شخصيته معينة, فمنا من يذكر (بروس لي) أسطورة السينما, ومنا من يذكر (مارادونا) أو (بيليه) أسطورة الكرة, وهناك من يتذكر أسطورة الطب (مجدي يعقوب), أو (محمد غنيم) وهكذا كل حسب اهتماماته.
وتعرف الأسطورة بأنها قصص أو أحاديث خيالية, فأصل المصطلح هو (المثيولوجيا) ومثيو تعني الخرافة, ولوجيا تعني الكلام أو الحديث أو التصريح, وقد نشأ هذا المصطلح (المثيولوجيا) لتفسير الأمور الغامضة, والأدب مليء بالقصص الأسطورية ويتطور الأمر بشكل انشائي أدبي فأطلق الأدباء والكتاب والأعلاميون مصطلح الأسطورة علي الشخص المتفوق في مجاله, أو الشخص الذي يقوم بأمور غير عادية, ومن هنا جاءت خطورة دور الإعلام لأنه هو الذي نحت هذا المصطلح, فلو أنه أطلق هذا المصطلح علي ممثل يؤدي أدوار بلطجة وهو شبه عاري ويتباهي بالأسلحة ويتعدي علي من يواجهه وتجد هذا البطل يستطيع كل شيء, هذا النموذج السيء من أخطر ما يقدم لأولادنا لأنه يدمر النموذج والقدوة في المجتمع, فيصبح البلطجي والشرير والفاسد (مخدرات وجنس وسرقة وفهلوة وطرق نصب واحتيال وكذب واستخفاف) هو النموذج البطل, لأنه يحقق ما يعجز عليه أي أحد وكل أموره تسير بسهولة ويسر والجميع يعمل له ألف حساب.
وهنا نحن أمام جريمة في حق الوطن لأنك عندما تقدم هذه النماذج علي أنها الأسطورة والبطل فأنت تكرس للجريمة والفشل والتخريب وانعدام الوعي وإهمال التفكير والعلم والقيم الإنسانية والدينية, من هنا أكرر مدي خطورة ما يقدم للناس جميعا في كل الوسائط وعلي رأسهم الإعلام.
وعندنا نماذج رائعة هي التي يصلح أن نطلق عليها لقب الأسطورة, وهذه النماذج تتوافر فيها القيم الإنسانية والدينية, وللأسف نحن نركز علي النماذج السيئة التي تقدم وتلمع إعلاميا, في حين أننا نجد تجاهلا تاما للنماذج العظيمة والتي يحتفي بها في البلاد التي تقدر ذلك. وسأذكر علي سبيل المثال هنا بعض النماذج التي تستحق أن يطلق عليها لقب الأسطورة. وتاريخنا مليء بالآلاف من هذه النماذج فقط نحتاج أن نبحث ونظهر تلك النماذج ونقدمها للأجيال القادمة, بل يجب أن نضعها في مناهجنا الدراسية وأن تقدم إعلاميا, وتوثق في أعمال علمية وأدبية.
فشخص مثل الدكتور طه حسين في المجال العلمي يعتبر هذا الرجل أسطورة, فهذا الإنسان الضرير استطاع أن يعمل أعمالا يعجز عنها الكثير ممن لديهم البصر والإمكانيات, فهذا الضرير استطاع أن يحصل علي الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا, واستطاع أن يصير وزيرا للمعارف, وهو أديب ومفكر كبير وله الكثير من الروائع والأعمال الأدبية وتقلد وظائف مرموقة وكان له دور سياسي كبير, وهنا أنا لا أسرد حياة هذا العملاق إنما أعطي لمحة عن هذه النماذج.
وهناك نموذج رائع من مئات السنين وهو (ديديموس الضرير), هذا هو الأسطورة الذي يقدم لأولادنا وليس العبث الذي يقدم في الإعلام, وديديموس هذا شخصية مصرية عظيمة مثال للتفوق والنبوغ والعلم والقوة, وقد استطاع أن يتحدي الإعاقة وينبغ ويتفوق علي الكثيرين من المبصرين, بل لقد كان حجة ومرجعا لاهوتيا لعلماء الغرب, ولد ديديموس سنة 313م وفقد بصره في سن الرابعة, ولكن لشغفه بالمعرفة والقراءة والبحث علم نفسه بطريقة الحروف البارزة, وهو بذلك سبق برايل بخمسة عشر قرنا. حفظ الكتاب المقدس وتفوق ونبغ في النحو والبيان والفلسفة والمنطق والموسيقي, بل المدهش أنه نبغ أيضا في الرياضيات, ووصل الأمر بهذا العملاق أن يعين مديرا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية ذات الشهرة العالمية.
هذا الأسطورة تعاليمه تدرس في الغرب, وتجري عليها أبحاث ورسائل علمية, وقد قاوم هذا العملاق البدع والهرطقات التي ظهرت في أيامه, لدرجة أن بعض المؤرخين كانوا يطلقون عليه (الحصن المتين والسند القوي للمسيحية), وهذا الأسطورة له 28 مؤلفا ومعظمها موجود بين أيدينا الآن, وقد حدث أثناء الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1941م أن اكتشف في (طره) أثناء عملية حفر مغارة, اكتشفت كمية كبيرة من أوراق البردي كانت تحتوي علي الكثير من مؤلفات ديديموس الضرير, ووضعت في المتحف المصري.
هذه هي النماذج التي يجب أن تقدم لأولادنا, وقد قدمت نموذجين من القرن الرابع والقرن العشرين, وبأختصار شديد, لكن النماذج كثيرة أتمني أن أقدم كل نموذج من هذه النماذج في مقال مستقل.