منذ أيام وبالتحديد فى ٣١ أكتوبر مرت الذكرى الخامسة عشر لانتقال تماڤ إيرينى إلى السماء، وقد كانت رئيسة لدير الشهيد فيلوباتير مرقوريوس ابى سيفين للراهبات لمدة تجاوزت الأربعين عاما منذ سنة ١٩٦٢ حتى ٢٠٠٦، نجحت خلالها فى ترك بصمة كبيرة ليس فقط فى الدير الذى رأسته، ولكن فى الكثير من أديرة الراهبات مما جعلها تستحق بجدارة لقب أم رهبنة العذارى فى هذا الجيل. فلقد قامت بعمل ثورة فى كيان ونظام دير الشهيد العظيم مرقوريوس بالعودة إلى والالتزام بقوانين وحياة الرهبنة فى عصورها الأولى، وقد ذكرت بناتها الروحيات فى كتابهن الأول عنها كيف أمضت ثلاثة أيام فى صوم وصلاة وكانت الاستجابة بذهابها إلى السماء لتقابل أبًا عظيمًا من أباء الرهبنة وهو القديس باخوميوس أب الشركة الذى أرشدها إلى مخطوط عن قوانين وأسلوب حياة الشركة التى أسسها فى القرن الرابع، لم يكن احد على علم بوجوده فى مكتبة الدير وهو مايثبت صدق هذه الزيارة السماويه الغير عادية.
بمعونة السماء وبإرشاد الروح القدس تمكنت تماڤ، رغم كل مالاقته من صعاب وتحديات، أن ترسخ هذا النظام الذى أعاد لرهبنة البنات هيبتها، بل وشجع الكثيرات، ومنهن لأول مرة خريجات الجامعات، على الالتحاق بهذه الحياة الملائكية. ونظرًا لأن البعض من بناتها الروحيات ترأسن أديرة أخرى للبنات، مثل تماڤ مريم فى دير السيدة العذراء، تماڤ يؤانا فى دير مارجرجس، تماڤ ادروسيس فى الأمير تادرس على سبيل المثال وليس الحصر، فقد انتشر هذا النظام فى كل هذه الأديرة وتركت من خلاله جزءًا من ميراثها الرائع فى حياة الرهبنة للبنات.
ويظل هناك ركن هام من ميراثها العظيم يتمثل فى الأقوال والتعاليم الروحية التى تركتها والتى تتشابه فى مضمونها مع تعاليم آباء وأمهات الصحراء المصرية فى القرون الأولى، وتستحق أن تكون جزءا من بستان الرهبان، ولم لا؟ فهذا عمل الروح القدس الذى التهب فى قلب كل هؤلاء الآباء والأمهات وجعلهم يقدمون حياتهم كأعظم ذبيحة حب لمن أحبنا من قبل وبذل ذاته فداء عنا، فالرهبنة هى نوع آخر من الاستشهاد وعندما انتهى زمن الاستشهاد الرسمى باعلان ميلان الذى أصدره الامبراطور قسطنطين فى 313، خشى آباؤنا وأمهاتنا من فتور الإيمان فنزعوا إلى هذا النوع من الاستشهاد وشهدت برارى مصر منذ القرن الرابع ميلاد و ازدهار هذه الحياة الملائكة بأنظمتها المختلفة، وترك الكثير منهم تراثًا أصبح ركنًا هامًا من الأدب الرهبانى ألا وهى أقوال وتعاليم نتناقلها حتى اليوم ليس فى مصر فقط، ولكن فى كل أنحاء العالم. فقد تمت ترجمة هذه الأقوال – التى قيلت شفاهيًا أو كُتبت بالقبطية أو اليونانية – إلى اللاتينية وانتشرت فى أديرة أوروبا وترجمت فى العصور اللاحقة إلى اللغات الاوروبية المختلفة مثل الانجليزية والفرنسية وغيرهما.
إذا ما قرأنا الأقوال والتعاليم الروحية التى تركتها تماڤ إيرينى، سنجد انها ركزت مثل أقوال آباء وأمهات الصحراء حول الفضائل الروحية الأساسية من صلاة وسهر روحى، من اتضاع وبذل وسكون، وكانت حياتها تجسيدًا لكل هذه الفضائل. فبالنسبة للصلاة، يمكن أن نطلق عليها ما قاله داود النبى “أما أنا فصلاة”. نقرا فى اصدارات راهبات دير أبى سيفين أن ضوء قلايتها كان لا ينطفىء تقريبًا طوال الليل الذى كانت تقضيه فى التسبحة والصلاة والحديث الذى لاينقطع مع من أحبته من كل قلبها وكانت ساعات نومها لاتتعدى الأربع فى اليوم وقد تركت لنا إرثًا من الصلوات الارتجالية الغنية فى بساطة كلماتها وعمقها ومدلولها الروحى. أتوقف عند عبارة مكونة من خمس كلمات ” خلينا نحبك من حبك لينا” هذه الكلمات البسيطة تعكس جوهر العلاقة التى أسستها المسيحية بين الإنسان واللـه الذى أحبنا حتى المنتهى، فنقرأ فى انجيل يوحنا البشير “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” ( يو 15: 13).فهو الحب المطلق واذا أحببناه كما أحبنا، لاستطعنا أن نعيش السماء على الأرض. أتذكر فى إحدى المحاضرات التى ألقيتها بجامعة نيو مكسيكو بأمريكا عن تماڤ ايرينى وكان الحضور من مختلف الديانات والطوائف والملحدين، قلت لنتخيل أن نحب بعضنا البعض حبًا غير مشروط، قائمًا على البذل والتخلى عن الذات، لأصبح العالم جنة وماسمعنا بكل الخلافات والحروب التى تعكر حياتنا سواء على المستوى الشخص أو العام. فوجئت بتفاعل الحضور بشكل كبير وفضولهم لمعرفة المزيد وإعجابهم، مع كل اختلافاتهم ، بتعاليم هذه الراهبة العظيمة التى لم تدرس فى اكاديميات علمية او لاهوتية، ولكن روح الله القدوس اعطاها الحكمة وكان يتكلم على لسانها وما تقوله كان فى واقع الامر يعكس حياتها التى كانت تكريسًا حقيقيًا لرب المجد.
لقد نلت بركة معرفتها عن قرب، وأتذكر كيف كانت تقول لى بثقة وإيمان لايهتز “اُطلبيه، يجي لك” عندما اندهشت من البساطة والثقة التى تتحدث بهما، أكدت اننا اذا طلبناه فى الصلاةبايمان، يأتى ويجلس معنا.. ومن المؤكد أن هذا الكلام كان بناء على تجارب شخصية لن نعرف اعماقها ولكنها تؤكد صدق المواعيد الإلهية التى تخبرنا انه يقف على الباب ينتظر الدعوة للدخول والجلوس معنا. هذا مثال واحد فقط لميراث عظيم لا يفنى ولايضمحل تركته لنا تماڤ ايرينى وهو جدير بالقراءة والبحث والتشبه به، فهو أيضًا يؤكد أن اللـه هو هو أمس واليوم وغد والذى تمجد فى قديسيه منذ القرون الأولى لايزال يتمجد من خلال جبارة إيمان تقدمهم الكنيسة والرهبنة القبطية الأرثوذكسية التى ستظل وعاء لن يضنى وميراثها لن يضمحل.