كل حصن للحماية إلا الذي بلا يقين, كل الجبال ثابتة إلا التي زلزل الله موجات الأرض أسفل صخورها, كل مسالك الخلاص آمنة إلا التي بلا مرور, كل الأغاني مبهجة, كل الأماني رائجة مشروط بالإيمان ابتهاج العبور, مقرون بالثقة حبس سلطان الغرور…نعم فسلطان المرض مغرور جدا, وسلطان السرطان الأشد غرورا علي الإطلاق,لكنه يتضاءل أمامنا حينما نرفع أيادينا إلي العلاء, فنري مجد الله يبرق نحو ذلك السلطان ليصير حبيس الإيمان, ذلك السرطان اللعين, الذي يملك الأجساد, ويسود عليها, أبدا لم ولن يملك الأرواح وها هي بطلة قصتنا اليوم تؤكد ذلك.
منذ ما يتخطي تسع سنوات مضت, التقيت بها, امرأة في الأربعينات من عمرها تستند إلي عكازين وتصطحب طفلين مثل شريط سينمائي أعادتني سامية إلي ماضيها مالت في اتجاهي وقالت:كنت أحبه وسأظل لا كتب الله عليك لوعة الأرملة في فاجعة رحيل الزوج والحبيب.
قشعريرة سرت في كياني, قلبي يردد الدعاء ودمائي تصرخ آمين, فكل الأشياء تصير رمادا حينما تحترق القلوب تنسد منافذ الأمل فجأة وتبدأ ليالي خريفية تطول إلي ما لا نهاية لا حر ولا برد لا أمان ولا رعب ميوعة تخترق المشاعر حينما تأتي رياح الفقد وتذهب لتترك السكون حولنا بلا رفيق إلا الدموع.
سامية كانت شابة طموحة, التقت برجل حنون, وقعت في حبه, كان أرملا ولديه ولدان تزوجت منه لم تكن محبوبة من ولديه, فالصورة الذهنية لزوجة الأب لم تفارق الأبناء, واستمرت الحياة علي مضض.
انجبت سامية طفليها ولد وبنت, كان لهم سكن خاص, إذا لم يتوافق الإخوة معا أبدا, لم يحن أي من الكبيرين علي الصغيرين, والعجيب أن الرجل كان يحيا مع الكبار الذين بلغوا العشرين ويزور الصغار الذين تركهم في رعاية والدتهم, انفطر قلب سامية, أصيبت بداء السكري, وتحول المرض لعبء جديد أضيف للأعباء القاسية التي علي كاهليها, وما بين الاشتياق لزوجها وللحياة الآمنة المستقرة وبين مسئولية الأبناء والمرض, كانت إرادتها تقطر مرا لتقبض علي الصمود.
وتحولت رياحين الحب إلي علقم الغياب, بعد مرض زوجها, وتغول الفراق بموته لتبتلعها هاوية الأحزان ويطيح مرض السكر بها وبتسبب في بتر القدم والساق اليسري حتي الركبة, جاءت إلينا نشرنا عنها حينها تحت عنوانطرف مكسور وتواصلنا مع عدة جهات حتي تمكننا من تركيب الطرف الصناعي لها وبدأنا مساعدتها في نفقات الدراسة للطفلين, لكن طواحين التجارب نترفض التوقف التقطتها من الوحدة وبتر الساق, لتسلمها إلي سلطان السرطان, فلم تسعفها الظروف لتشفي فما إن حظيت بتركيب الطرف الصناعي حتي فوجئت بأعراض أخري.
كانت نتيجة فحوصها إصابتها بسرطان الغدة, وهكذا علي مدار السنوات التسع الماضية كانت تتماثل للشفاء ثم يعود السرطان لشراسته,يتخلي عن سلطانه في جسدها لصالح رحاب الأمل حينا ثم يعود ليمتلك خلاياها مرة أخري, هذا هو اللعين الذي يختطف الناس من معيتنا كل يوم يتركنا عاجزين أن نرد سلطانه عن أقدارنا, فنتحلي رغما عنا بالصبر الإجباري, أو سكينة اللاحيلة إلي أن تعمل روح الله في قلوب المجروحين بفقد الأحباء.
لم نتخل يوما عن سامية ولا عن نفقات تعليم الولد والبنت اللذين تخلي أخوهما عنهما ولم يمكناهما لا من معاش, ولا من حقوق ولا من مساعدة. لأننا نعلم جيدا إن لم نفعل ربما أنها لن تستطيع حتي اللجوء لأحد ليفعل, فحينما نشرنا عنها في عام2012 قالت نصا:كل ما أخشاه أن أرحل عن هذه الحياة تاركة ابني وبنتي للمجهول, للملاجئ والشوارع يتخبطان فيها, للأرصفة والتلطم بين الأشرار مرة والأخيار مرة, أخشي ما أخشاه أن يسرق الموت حق أولادي في البنوة وأم ترعاهما.
أنا لا أخاف الموت لأن لي فيه راحة كبري, لكنني أخاف الحياة لأنها لاتعرف حقوق الأيتام.
واليوم بعد ما يقرب من عشر سنوات نحن ملتزمون بأسرة سامية نجد أنفسنا غير قادرين علي الوفاء بالتزامات تعليم الطفلين الذين صارا في سن المراهقة, وأشرفا علي إنهاء المرحلة الثانوية, نجد سامية في أسوأ حالاتها علي الإطلاق فلا تستطيع حتي اللجوء لآخرين لمساعدها, فالابن والابنة صارا كبارا ومن الصعب كشف سترهما وتمزيق كرامتها في هذه السن الحرجة,فهل نستمر في تحمل مسئوليتهما؟
لا أعلم فالقرار لمن يقرأ الآن…كل ما أعمله أن الله اتخذ قراره سابقا وسجن سلطان المرض تسع سنوات فلم يتمكن من روحها, وما زالت ترعي ابنها وابنتها حتي صارا يرعيانها, لكن رحلة التعليم لابد أن تكتمل, حتي لا يضيع عناء السنين الماضية وسط زوابع العوز والاحتياج.