الأمور التي تري وقتية. أما التي لا تري فأبدية
المادة والعالم والجسد, من الأمور المرئية الزائلة
عش في العالم, ولا تجعل العالم يعيش فيك
ما هي الأشياء التي لا تري, لنهتم بها؟
قال القديس بولس الرسول: ـ ونحن غير ناظرين إلي الأشياء التي تري بل إلي التي لا تري لأن التي تري وقتية. وأما التي لا تري فأبدية ـ (2كو 4: 18).
فما هي هذه الأشياء التي تري, التي ينبغي علي الإنسان الروحي ألا ينظر إليها!
أولها المادة
المادة من الأشياء التي تري, لذلك فهي وقتية, لا تدوم إلي الأبد. إن لم نفارقها نحن, فلابد إنها هي ستعارقنا لذلك قال الله للغني الغبي من جهة كل أمواله ومخازنه هذا الذي أعددته, لمن يكون؟!
لذلك سعيد من يكنز له كنوزا في السماء, في نطاق ما لا يري.. فتتحول كنوزه من أشياء مرئية, إلي أشياء غير مرئية.. تتحول إلي روحيات..
العالم أيضا من الأشياء التي تري, من الأشياء الوقتية
;لذلك قال الرب إن السماء والأرض تزولان. وقال يوحنا الرائي؟ أبصرت سماء جديدة, وأرضا جديدة. لأن السماء الأولي والأرض الأولي مضتا, والبحر لا يجود فيما بعد (رؤ 21: 1)
كلها أمور زائلة, لأنها.. المرئيات لهذا فإن الكنيسة تردد علي ذاتنا في كل قداس قول الرسول:
لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. لأن العالم يبيد, وشهوته معه…
من هنا وجدنا أن آباءنا القديسين قد بدأوا حياتهم الروحية بالموت عن العالم.
وفترة حياتهم في العالم, قضوها فيه كغرباء, ليست لهم هنا مدينة باقية, يبتغون وطنا سماويا (عب11 13, 16). غير ناظرين إلي المرئيات.
ولعل البعض يسأل. ماذا أفعل عمليا, كيف أترك العالم والمادة, وأنا أحيا فيهما؟ إن الرسول يجيب علي هذا بقوله يكون الذين يستعملون العالم كأنهم لا يستعملونه. لأن هيئة هذا العالم تزول (1كو 7:31).
إذن عش في العالم, ولكن لا تجعل العالم يعيش فيك.
يمكن أن تملك المادة ولكن لا يجوز للمادة أن تملكك
العالم مكانه في الخارج, لا يدخل إلي داخل قلبك أو فكرك أو مشاعرك تستعمل ما فيه من مادة, وأنت متحرر في الداخل من سيطرتها ومن محبتها.
وكل ما تفقده من أمور العالم, لا تحزن عليه, لأنه لا يصحبك في اليوم الآخر. وبالتالي لا تشتهي أن تقتني من العالم شيئا, فقد قال الرب: ماذا يستفيد الإنسان: لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!
وعبارة غير ناظرين تعني عدم الاهتمام, وعدم الانشغال بشيء من أمور المادة والعالم, لأن الفكر منشغل بشيء آخر روحي من الأمور التي لا تري. وكما قال الرسول أريد أن تكونوا بلا هم (1كو 7: 32).
والإنسان الذي لا يهتم بشيء من المرئيات, يعيش بلا شك سعيدا, ويتحرر من الشهوة ومن الخوف..
وفي ذلك قال القديس أوغسطينوس جلست علي قمة العالم حينما أحسست في نفسي: إني لا أشتهي شيئا ولا أخاف شيئا..
إن الإنسان الذي ارتفع فوق مستوي الماديات, هو حصن منيع لا ينال, هو فوق العالم, وهو فوق الجسد أيضا.
فهذا الجسد المادي هو أيضا من الأمور الوقتية الزائلة, لأنه خاضع للحواس. وسيأتي وقت ننطلق فيه منه, حينما نخلعه, ونلبس جسدا آخر روحانيا نورانيا غير قابل للفساد هو جسد القيامة الممجد.
أما هذا الجسد فسيأكله الدود, ويتحول إلي تراب, وحينما يقوم سوف يقام جسدا روحانيا قد تخلص من سيطرة المادة ومتطلباتها وضعفاتها.
أنت علي صورة الله ومثاله والله روح. عش إذن الروح.
والروح من الأشياء التي لا تري. وفي حياة الروح, تخلص من شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة وتمسك بالأشياء التي تبقي معك في الأبدية. أما الأمور المرئية فلا تهتم بها, ولا تجعلها تسبب لك هما…
كان السيد المسيح علي الجبل, مع الآب, منشغلا بالأمور التي تري فماذا كانت تجربة الشيطان له, في صورها الثلاث المتحدة في الهدف؟
كانت التجربة هي محاولة جذبه مما لا يري, إلي عالم المرئيات…
جذبه إلي الحجارة التي تصير خبزا إلي طعام الجسد: إلي المناظر التي تستهوي الحواس, إلي ممالك الأرض ومجدها.
أما السيد المسيح, فتمسك بالأشياء التي لا تري.. بالروح التي تتغذي بكل كلمة تخرج من فم الله.. لذلك رفض كل تلك الماديات, ولم تترك في نفسه أثرا.