يقول بولس الرسول:أزيلوا عنكم كل شراسة وسخط وغضب وصخب وشتيمة وكل ما كان سوءا(أف31:4).
ذات يوم خرج لويس الخامس عشر ملك فرنسا, وكان بعد صغيرا, للنزهة بصحبة مربيه, فقابلهما بالقرب من مدخل القصر ماسح أحذية فقير, فقام للتو وأسرع إلي رفع التحية لهما, وللحال ترك المربي يد الأمير الصغير ليرد التحية بكل أدب وأخلاق وابتسامة عذبة فتعجب الأمير من هذا التصرف قائلا:لماذا ياسيدي فعلت هذا وتقوم بتحية مثل هذا الإنسان؟! فأجابه:مولاي العزيز! أنا أفضل أن أحيي خادما بسيطا فقيرا, من أن أسمع عن خادم فقير هو أكثر مني أدبا ولياقة! يا له من موقف يعلمنا جميعا أن الإنسان العظيم هو الذي يتحلي بالأخلاق الحميدة واحترام الغير.
ما أحوجنا لمثل هذه النماذج الحية في اللياقة والذوق حتي تتعلمها أجيال اليوم.
هذا هو دور الأسرة والبيت أولا وليست المدرسة هي المسئولة الأولي عن تربية الأبناء, فعندما لايقوم الآباء والأمهاء بتهذيب وتربية أولادهم, ويهملون العناية بهم في الصغر,مما لا شك فيه أنهم سيندمون علي سلوكهم عندما يصلون إلي مرحلة ما.
إذا يجب أن يعلم جيدا الأهل بأن البيت هو التربة الخصبة التي يمتص منها الأبناء أخلاقهم وطباعهم وتصرفاتهم واحترامهم للغير, لأنه ليس من المعقول أن نعتقد بأن المدرسة ستقوم بتقويم وتصحيح كل ما هو معوج من طباع الأبناء, أو إصلاح ما أفسده الجو العائلي.
والأدب هو فضيلة إنسانية مفروضة علي الجميع سواء أغنياء أو فقراء, مثقفين أو غير مثقفين, لأن الإنسان مهما ارتفع مستواه الاجتماعي ومركزه وكان متحليا بالأخلاق الحميدة, يبرهن بتصرفه هذا علي نبل أخلاقه وعظمة سلوكه وأدبه الجم.
لأن الأدب الذي يظهر في معاملاتنا مع الآخرين من جميع الفئات التي نتقابل معها, دليل علي التهذيب السامي والعقل الراجح والقلب المنفتح والمحب,لأنه ليست قيمة الإنسان الجوهرية في الشهادات التي حصل عليها ولا الوظيفة التي يشغلها, ولا الثروة التي يمتلكها, بل في مستوي أخلاقه وأدبه وتهذيبه وتواضع نفسه واحترامه للغير.
ليس من المعقول أن يعتقد الأهل بقول البعض:متي كبر الطفل ونضج, يستطيع أن يكتسب ما يشاء, ويتخلص مما يكره, لأنهم سيرتكبون أكبر خطأ بقصد أو بدون عندما يعيشون في جو من الخصومة الدائمة والشجار المتكرر,ولا يبالون بالكذب الذي تعودوا عليه أمام أبنائهم, ولا ينتبهون لاستعمال الكلام البذيء ونهش أعراض الناس في محيط الأسرة, كما لا يهمهم عدم الاستقامة في المعاملة, لأن النتيجة ستكون حتما تدمير أبنائهم أخلاقيا وسلوكيا لأنهم نموا وترعرعوا علي غرار والديهم, وسيحترق قلبهم علي هذه التصرفات المشينة في المستقبل ويندمون أشد الندم بعد فوات الأوان.
لكن الأخلاق الحسنة والسيرة الفاضلة هما حصيلة التربية الحقيقية في محيط أسري صحي, لذلك يجب علي الآباء أن يقرنوا الأقوال بالأعمال, ويربوا رجال المستقبل, ويزرعون فيهم معني السخاء والعواطف الإنسانية واحترام الغير, ثم يأتي فيما بعد دور المدرسة التي تتابع وتكمل ما قام به الأهل من تربية وتهذيب, وتسقي هذه التربة الجيدة حتي تثمر أفضل ما فيها من أدب وأخلاق, عندما تقابل رجل غير مهذب خطيب اليونان الشهير ديموسيتن وتطاول عليه بالشتيمة والسباب,نظر إليه وابتسم ثم قال له:يا صاحبي, أنا لا أسابق في ميدان, الغالب فيه شر من المغلوب وهكذا يجب أن يكون أدب الإنسان, لأن الذي يعتبر نفسه فائزا في ميدان الشتائم والإهانات, إنما يدل علي فساد أخلاقه وتربيته,فالرجل الخلوق والمهذب يظهر في مثل هذه المواقف فضله وأخلاقه وحسن معاملاته, لأنه يتغاضي عن الإهانة, وليس كما يعتقد البعض بأنه عاجز ولكن لرحابة صدوره ورجاحة عقله.
فالإنسان غير مهذب إن أهانك فحجته معه وواضحة أمام الجميع, وأما أنت الخلوق إن كنت ترد له الكيل كيلين, والكلمة عشرة, والصفعة أضعافها,فما هو عذرك؟لذلك فالإنسان الذي يتحلي بالأخلاق الحميدة والتربية المستقيمة يجب عليه أن يرتفع بالشخص غير المهذب إلي مستوي تهذيبه ونبل أخلاقه, وخلاف ذلك سينحدر هو شخصيا إلي مستوي غير المهذب إذا دور الأهل الرئيسي والجوهري هو تربية أبنائهم علي حسن السلوك والأخلاق وحب الآخرين والطبيعة والجمال والترتيب والنظام والحفاظ علي النظافة في كل مكان وزمان حيثما يكونون..ونختم بالمثل الفرنسي:الأدب لا يكلف شيئا, ولكنه يشتري كل شيء.