حافيا فوق الملذات النابتة بالأشواك سار, زائغا من بين يدي الله عاش, منتشيا بالشباب والقوة والقدرة, لم يفكر فيما قد تخفيه الأيام, حتي أشاحت وجهها البشوش عنه وأدارت له الوجه العابس.
عادل.. شاب في منتصف الثلاثينات, عرف طريق السوء مبكرا, وتمادي فيه, كان يأتي طالبا مساعدة فلا نستجيب, فحالته واضحة أنه يتسول راغبا في إيجاد من يتحمل تكلفة زيغانه عن الاستقامة.
كان يعمل أحيانا قهوجي, لكنه لم يمل من التردد علينا قط, ونحن لم نمل من نصحه وتوجيهه وعدم الاستجابة المادية له, بل كنت أنتهره في بعض الأحيان, إلي أن جاءني منذ أسابيع. شابا مختلف الأداء, منكسر الحال, لا يرفع عينيه أبدا, وجها لم تعرف الدماء سبيلا إليه, جسدا أقرب إلي الأشباح, صوتا مهتز الرنات, خائف الأنفاس.
رأيته ضعيفا صادقا, لا ريب في روايته, حط جسده النحيل فوق أول مقعد قابله, وقال: أنا تعبان ومحتاج مساعدة, أنا عندي مرض وحش, مش لاقي حد يساعدني, أنا صحيح كنت شقي لكن مش مجرم, أنا مش مجرم, ولا وحش أوي كده قال ذلك ثم انخرط في البكاء, وكأنه يغسل ماضيه, سألته:
ـ تقصد أيه بالمرض الوحش؟
ـ هم قالوا لي كده في مستشفي الحميات الحكومي اللي رحت كشفت فيه, كنت فاكر عندي كورونا كنت باكح بس وعمال أخس.
ـ ولما رحت عملوا لك تحاليل؟
ـ أيوه تحاليل كتير جدا وقالوا لي مالكش علاج بره. علاجك عندنا هنا وما تتعاملش عند دكاترة بره.
ـ ممكن نطلع علي صورة التحاليل وتقرير من المستشفي علشان نقدر نساعدك.
ـ حاضر هاجيب كل حاجة بس أنا دلوقت لازم آكل وأدفع الإيجار ومش معايا أي فلوس ومش قادر أشتغل في القهوة وأنا بالحالة دي, محتاج تساعدوني أي مساعدة مش لاقي حد أروح له.
حقا لم أستطع رفض طلبه تلك المرة, وكأن صوتا داخليا اتخذ القرار بالمساعدة دون تردد, ربما حالته العامة التي تنذر بكارثة صحية. لا أعلم لكن تمت المساعدة, وذهب, ثم عاد بعد أيام قليلة, حاملا ملفا كاملا من التقارير والأشعات والتحاليل, يفيد الملف بأن عادل مصاب بالإيدز.
لن أنكر صدمتي للوهلة الأولي, استجمعت انتباهي وطلبت منه أن يروي التفاصيل, باكيا غارقا في شبه هلوسات مفهوم بعضها وبعضها غير مفهوم قال: أنا ماليش علاقات, ما عملتش حاجه وحشه ولا حاجه غلط, أنا مش وحش أجبته: يا عادل إحنا هنا علشان نساعدك مش علشان نحكم عليك, أي خطية مهما بلغت قسوتها في النهاية مادمت قدمت توبة بل ودفعت التمن, فأنت مبرر بها بقوة روح الله اللي وعد بغفران الخطايا, إحكي اللي عايزه واللي مش عايزه احتفظ بيه, وماتضغطش علي روحك.
وسط بكاء يمزق القلوب, أكمل عادل كلامه وقال: أيوه أنا عشت بالطول والعرض رغم أني فقير, بس كنت صنايعي قهوجي وكمان بأطلب من اللي حواليا أحيانا لو الفلوس قصرت معايا كنت حابب أعيش زي الشباب اللي بيعيش, أهلي في البلد علي أد حالهم جدا, وأنا كنت بعيد عنهم طول عمري, مش عايز أجيب سيرتهم علشان الوصم مايطولهمش كفايه أنا اتوصمت, مش هاقول إني بريء ولا طاهر, لكن مش أنا بس أكيد ناس كتير كده.
أنا خايف مش عايز أعدي حد, مش عايز أموت, مش عايز الناس تهرب مني, أزاي أقدر أعيش تاني وسط الناس. أنا مش هاقدر أقول لأي حد مرضي, ومش هاقدر أطلب من حد يساعدني, أنا عايش لوحدي, لكن هل أتكتب علي أعيش لوحدي العمر كله, ما يكونش عندي زوجة أو ابن.
أنا عملت حاجات وحشة كتير لكن عمري ما تصورتش أن عقاب ربنا يبقي كده أبدا, ليه ربنا عمل كده ليه؟ نفسي أسافر لأمي البلد أترمي في حضنها أقول لها سامحيني, بس خايف وأحضنها إزاي وتضمني إزاي وأنا شايل بلاء!.
وإزاي أقدر أواجهها وإزاي تقدر تسامحني, وإزاي أجرؤ أقرب منها وأنا شايل فيروس قاتل ممكن يتنقل لها؟ هاتجنن مش عارف أعيش, مش ممكن تكون دي النهاية كده مستحيل يكون ربنا قاسي كده مستحيل؟ لما باروح المستشفي باشوف اللوم في عيون الناس, الوصم مغرقني والخزي مغطيني, من فوقي لتحتي, المرض فضيحة, وأنا اتفضحت وكل مرة باروح للعلاج باتفضح أكتر وأكتر, باخد دوا علشان جسمي يخف, وباخد وصم علشان روحي تموت.
يتسارع الشهيق والزفير في صدر عادل, نسرع بكوب من المياه, تنهمر دموعه كالطفل التائه عن حضن أمه, ثم ينظر إلي في ذهول, إنتي مش خايفة مني؟ مش عايزاني أمشي؟ طيب هاتساعديني أقدر آكل وأدفع الإيجار لغاية ما أقدر أقف علي رجلي تاني؟.
أجبته: أبدا مش خايفة, إيه اللي يخوف, مرض زي أي مرض لو اتعاملنا صح, وأكيد ربنا بعتك هنا لأنه عايز يستخدمنا في مساعدتك.
ومن سؤال عادل التقطت طرف الخيط, لأصحح له معلومات ولكل مريض إيدز تقع عيناه علي هذه السطور.
أولا: لا يمكن أن يكون المرض عقابا من الله, أي مرض وليس الإيدز فقط, فلو عاقبنا الله علي كل خطايانا لن يتزكي قدامه حي, الله لا يعاقبنا بل يريدنا أن نحيا في شركة معه, يريدنا ملح الأرض الذي به يملح, وحينما نتركه برضانا نحصد نتيجة أفعالنا, الله ليس قاسيا لكنه عادل.
وما نجنيه اليوم هو حصاد الحرية التي منحنا إياها بالأمس, حصاد اختياراتنا, وإرادتنا الحرة التي بها قررنا كيف ومتي نسير بصحبة الشرير وكيف ومتي نسترد روح الله إلينا مرة أخري, الله صالح ومن كنز صلاحه أوجد علاجا لكل ما استحدثته خطايانا من أمراض.
ثانيا: هناك تحليل جازم له لا يحتمل أي نسبة خطأ, ولا يوجد سوي في مستشفيات الحميات, هو تحليل البقع الغريبة, وهو التحليل الذي قام عادل بإتمامه في أحد مستشفيات الحميات, ورغم تحمل الدولة تكلفة العلاج بالمجان, إلا أنه مقابل ذلك عليه تحمل الوصم, حيث ينتفي عامل السرية, ويظهر الوصم, والوصم في مجتمعنا عنيف, لا يرحم المريض, غنيا كان أو فقيرا فما بالنا بالفقير الضعيف الشاعر بقدر كبير من الذنب تجاه ما ارتكبه من أفعال أوصلته لهذه النقطة الخطيرة من حياته.
ثالثا: وطبقا لبرنامج الأمم المتحدة للإيدز فإن مرض الإيدز, لا ينتقل إلا عبر نقل الدم خلال العمليات الجراحية, أو ممارسة الجنس, أو من الأم للطفل بالرضاعة والولادة الطبيعية, لكنه لا ينتقل بالمعاملات الأخري. وليس هناك ما يدعو لعزل مريض الإيدز, ومريض الإيدز يمكن أن يتزوج دون أن ينقل عدوي المرض إلي شريكة حياته من خلال بعد الإجراءات, بل إن الأم الحاملة للفيروس يمكنها ولادة طفل سليم دون أن تنقل إليه العدوي عبر بعض الإجراءات التي ستتعلمها في مشورة الحميات.
ولا مبرر لخوف بعض الأطباء من التعامل مع المريض, إذ أن الفيروس خارج جسم الإنسان أضعف من فيروس B وفيروس C, ويمكن التطهير من آثاره بالمياه الساخنة أو الكلور أو الديتول. فلا ينبغي الخوف من التعامل مع مريض الإيدز أو إحراجه فالبعض وصل إلي الانتحار بسبب الوصم المجتمعي.
رابعا: وفقا لتقارير طبية, العلاج يقلل تطور الحالة, إذ أن فترة حضانة الفيروس تتراوح بين 15 عاما و20 عاما في حال تلقي المريض العلاج تتقلص فترة الحضانة إلي 5 سنوات, كما أن الأعراض التي ستصيب المريض بعد الدخول إلي متلازمة الإيدز ستكون أكثر عددا وأشد قسوة في حال عدم تلقي العلاج, والعكس.
والمريض الملتزم بالعلاج سيجد دواء سريعا لهذه الأعراض, وكلما بدأ المريض العلاج مبكرا, كلما تحسنت مناعته ومقاومته, والمريض طالما لم يصل إلي متلازمة الإيدز فهو فقط حامل لفيروس الـHIV, ومتعايش معه مثل أي مريض آخر متعايش مع مرض الدرن أو الروماتويد أو الغدة الدرقية, وما يسعي إليه الطبيب هو أن تطول الفترة من الإصابة بالفيروس وقبل مرحلة متلازمة الإيدز, وألا يتوحش الفيروس.
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة فإن إجمالي عدد مرضي الإيدز في العالم حتي عام 2018: 37.9 مليون, في حين ترتفع النسبة في السيدات المصابات في العالم إلي 49%, بعدد 18.8 مليون سيدة مصابة, أما في مصر فيصل العدد التقديري للمتعايشين مع فيوس نقص المناعة البشري في مصر حوالي 22.000 في عام 2018, تبلغ نسبة النساء من سن 15 إلي ما فوق, 29% من إجمالي الأعداد المصابة, أما نسبة الإصابة بين الأطفال فلا تتعدي الـ2%.
تلك الإحصاءات إنما تدل علي أن الله لا يمكن أن يكون غاضبا علي كل أولئك البشر الذين أصابهم المرض لأسباب مختلفة, الله أمين وعادل.
إن فكرة الانتقام الإلهي فكرة شيطانية, فالله لم يخلق البشر ليعذبهم, الله لا ينتقم, نحن لا نعرف سوي الله الرحوم, المبح, الذي يقبل الخطاة والساقطين علي علاتهم, المترفق, الصبور, طويل الأناة علي خلقته, الله لا يحتاج فيروس أو كورونا أو سواهما ليعاقبنا به.