دقة مهمته كانت أحد مفاتيح نجاح القوات الجوية فى عملية العبور ، هو أحد الضباط الفنين المتخصصين فى صيانة الطائرات الحربية أيام حرب الاستنزاف وملحمة أكتوبر المجيدة، نقيب سمير عبدالله عيسى الذى عشق عمله لدرجة جعلته يصر على الاستمرار فيه رغم إصابته، فى وقت قياسى وبسرعة فائقة استطاع مع زملائه أثناء الحرب إعادة تسليح الطائرات وتموينها وإصلاح كافة أعطالها لتتمكن قواتنا الجوية من الاستمرار في القتال لفترة طويلة ، فى عمل بطولى تسلق طائرة كادت أن تنفجر ليبعدها فى مكان خلاء وينقذ المطار من كارثة محققة .
نقيب سمير أحمد عبدالله عيسى من مواليد محافظة السويس عام 1947 ، التحق بمركز تدريب مهن طائرات تخصص صيانة الطائرات الذى كان متعارف عليه قبل أنشاء المعهد الفنى للقوات المسلحة عام 1950 ، بعد تخرجه عام 1968 عمل بمطار بلبيس على طائرات “سوخوى 7 ” الروسى ، أصيب عام 1978 أثناء تموينه احدى الطائرات فحمل كارنيه المحاربين القدامى ، أصر على الاستمرار فى عمله حتى خروجه للمعاش عام 1990 .
– ما طبيعة مهامك كأحد فنى مطار بلبيس الحربى ؟
المطار يضم الكلية الجوية التى اشتركت فى الحرب رغم أنها جهة تدريب ، فقد اشتركت بطيارين وطائرات صغيرة وضعوا فوق اجنحتها قنابل ، أيضا يضم الدفاع الجوى و سلاح المظلات ، كانت مهمتى تفتيش الطائرة بتقنية عالية على كل أجزاءها وتجهيزها للاقلاع ، التأكد من عدم تسريب الوقود ، ومن سلامة العجل والإطارات ، التأكد من تموين الطائرة من الوقود و دورة الفرامل وكمية الزيت التى بها ، ثم أقوم بعمل تست للطائرة وتدويرها لكن دون الاقلاع بها إذ كانت القواعد تمنع أن يقوم اى مهندس أو فنى الاقلاع بالطائرة اطلاقا ..
– كيف تم إعدادكم خلال حرب الاستنزاف ؟
حرب الاستنزاف كانت بمثابة تدريبات شاقة لنا، كنا نقوم بعمل ثلاثة طلعات نهارى وثلاثة ليلى، كنا ننام ساعتين فقط، نقوم بتغير عجلات الطائرات حتى صباح اليوم التالى ، فقد اكتسبنا لياقة عالية وطولة بال ، فالكل كان لديه عزيمة قوية للنصر، كنا نقوم بمغامرات رهيبة منها انه من المتعارف عند وضع حمولة قنابل على أجنحة الطائرات بواسطة الونش لابد أن نتأكد من تركيبها بأمان بعد سماع صوت تكا معين ، لكن فى أحد المرات لم اسمع صوت التكا فيسرع جندين بحمل القنابل على ظهرهم وهى متثبته حتى يصدر صوت التكا ، تعودنا أن نأكل أى شىء حتى لو طال الأكل تراب أو ظلط ، كنا نشرب المياه من داخل برميل يحيطه الصدأ ، كل هذا جعلنا مستعدين للحظة الحرب .
– بتكنولوجية أقل خاضت طائراتنا الحرب .. ما تعليقك ؟
كنا نحارب بطيارات أقل تكنولوجية من طائرات العدو، ولكى أن تتخيلى أن الطائرات المقاتلة محملة بالذخيرة والقنابل كان عليها أن تصيب الهدف وإلقاء هذه الذخيرة وتعود بسرعة فائقة الى القاعدة الحربية تحيطها طائرات أخرى لحمايتها ، ويتم إعادة تعميرها بالذخيرة وتموينها بالوقود لتقلع مرة أخرى خاصة إذ علمتى أن الطائرة وقتها لا يمكن أن تظل فى الجو أكثر من 45 دقيقة لاستنفاذ الوقود بها.. كان الطيار يبذل مجهود رهيب فكانت امكانياته اقل بكثير من التكنولوجية الاسرائيلية .
– ما دور بلونات الهليوم خلال حرب أكتوبر؟
البلونات سلاح معروف منذ الحرب العالمية الأولى ورغم أنه وسيلة قديمة إلا أن نتيجته هائلة وهو منتشر داخل المطارات ، والبلون حجمه كغرفة كبيرة خمسة متر فى خمسة متر ، يتم نفخه بغاز الهليوم ويتم رفعه بكبل مثبت على ونش على الأرض ، وهو مرفوع بشكل عشوائى داخل المطارات من أجل حمايتها من طائرات العدو إذا حاولت خرقها، فإذ حاولت هذه الطائرات الاقتراب من المطارات تصطدم بالبلونات فتنفجر فى الحال ، وأثناء الحرب كانت البلونات على الآرض حتى تفصح الطريق لإقلاع طائراتنا الحربية وعدم الاصطدام بها ، وكانت هناك وسيلة دفاعية أخرى هى اطلاق الصواريخ المدفعية، وكانت البلونات تنطلق وقت السكون .
– كيف كانت مهمتكم أثناء حرب تتطلب السرعة والدقة ؟
اشتركت فى حرب اكتوبر ولم اكن اعلم اننا نحارب ، ففى اليوم نفسه طلب منى كبير المهندسين تنزيل قنابل التدريب وتركيب قنابل عمليات وصواريخ بواسطة الطاقم الذى معى ، قلت له انها حمولة على جناح الطائرة لو لم تلقى بسرعة سيتأثر كساء الطائرة بأكمله قال لى : “لا تشغل بالك يا سمير” ولم يقل لى أننا نحارب فالأمر كان يتم فى سرية تامة ، كان التموين فى المعتاد يتم فى ربع ساعة وطبعا مكنش ينفع ده اثناء الحرب ، من خلال التدريبات استطاعنا توفير تانكر سريع لتموين الطائرة فى خمسة دقائق فقط تلك التى تهبط لاستنفاذ الوقود بها ، فى الوقت نفسه يتم إعادة تجهيز الطائرة من ذخيرة وحمولة فى حرب اكتوبر كل واحد عارف بمهمته … قبل اقلاع الطائرات كان دورى تأمين وإعادة تموينها بالوقود وأيضا اصلاح الأعطال فورا ، أثناء الحرب حدث أن أحد الطيارين تعرض لشذايا أدت الى شرخ زجاج كابينة الطائرة ، كان علينا اصلاح هذا الشرخ بمنتهى السرعة وتم اصلاحه بالفعل فى غضون ثمانى ساعات فقط وهذلك عكس المعتاد أن اصلاح هذا العطل يتم فى 48 ساعة ، السرعة كان عامل مهم جدا أثناء الحرب .
– صف لى فرحة الطيارين بعض عودتهم من الضربة الجوية الأولى ؟
فرحة الطيارين تشبه فرحة عريس يوم زفافه ، كم من الأحضان والقبلات المتبادلة بين الطيارين وطاقم المهندسين والفنيين والعاملين بالمطار الحربى لدرجة جعلت كبير المهندسين يعلو صوته ليقول “مش وقته علينا إعادة تجهيز الطائرات للطلعة الثانية” ..
– وماذا عن شعورك الشخصى ؟
قبل حرب أكتوبر كانت الطائرات مجهزة لأى لحظة للحرب ولكن متى لا أحد يعلم ، فى ذات مرة شرد ذهنى فنادى على أحد أفراد الطاقم قائلا: “سمير أفندى نفسك فى أيه” قلت له “نفسى الطائرات تقلع على سيناء ونسترد أرضنا” ، وحينما جاءت لحظة الحرب وأقلعت الطائرات ولم نعلم أننا فى حالة حرب أعلنت الإذاعة المصرية وسمع زملائى الخبر وجاء نفس الشخص بسرعة البرق ينادينى “سمير أفندى اللى كان نفسك فيه حصل” شعورى وقتها لا يمكن وصفه فقد تمنيت و حلمت وفجأة يتحقق الحلم ..
– شخصيات مازالت عالقة فى ذهنك تاركة أثرا فى نفسك ؟
الكابتن عاطف السادات كان رئيس سرب داخل مطار بلبيس قمة الاخلاق اذكر انه قال لنا “اكتبوا لى على القنبلة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” وكان ينصح زملائه بقوله “الله ينصركم بإذن الله ” ، أيام التدريب فى حرب الاستنزاف كنت مسئول عن ثلاث طائرات ، وكان الكابتن عاطف يأتى ليقلع بواحدة منها كان يقول لى “جاهزة يا سمير” ، كان يتحدث معنا ويعرف مشاكلنا ويحلها ، كان يتفانى فى عمله عليه أن يوجه الطيارين من غرفة العمليات لم يكتفى بهذا بل اقلع معهم ليوجه ضربات لمواقع العدو فى سيناء واستشهد بطائرته ..
– حدثنى عن المواقف الإنسانية التى تتذكرها أثناء خدمتك ؟
أثناء حرب الاستنزاف أثناء تموين أحد الطائرات داخل الدشمة التى تحصن الطائرة من ضربها على الأرض تسرب كمية من الوقود على الأرض وصادف انبعاث شرذ من تانكر الوقود أدى الى اشتعال الأرضية ، كان لابد من إنقاذ الموقف ، وجدت نفسى اصرخ فى الطاقم الموجود لكى يبتعدوا عن المكان فورا وركبت الطائرة وتمكنت من فك الفرامل وقمت بتدويرها وهى على الأرض واتجهت بها خارخ الدشمة الى مكان خلاء وتم إنقاذ المطار من كارثة محققة لو بقيت الطائرة مكانها لحين وصول طيار يقودها حسب القواعد… كنا أسرة واحدة يجمعنا التعاون ، أى طائرة يحدث بها مشكلة نتضافر من أجل حلها ولا نقول طاقمها مسئول عنها ، اذكر كانت اسراب الطيران الجزائرى تحلق فى السماء ، احدى الطائرات هبطت وهى مشتعلة ، على الفور تضافرنا كفريق واحد لإطفاء الطائرة وإنقاذ الطيار الجزائرى .. اذكر أيضا أنه كان معنا جندى حراسة يدعى جرجس ما يقرب من عشرة سنوات ، اصر أن يصوم معنا شهر رمضان ، وفى مرة اشتبك معه عسكرى مسلم يدعى على شومان ووصل الأمر للقائد الذى استدعانى لمعرفة من فيهم المخطىء ، قولت وقتها كلمة حق أن العسكرى المسلم هو المخطىء ..
– لما تحمل كارنيه المحاربين القدامى ؟
فى 1978 أثناء التدريبات العادية تعرضت لاصابة بالغة أثرت على حركة قدمى وذلك أثناء تموين أحد الطائرات ، بعدها انتقلت الى مطار انشاص عام 1980 ، وتوليت عمل مخفف على طائرات “اف 16” ، كان بإمكانى الخروج مبكرا على المعاش رفضت هذا وأصريت على الاستمرار فى عملى حتى بلوغى سن المعاش عام 1990 .