مسار العائلة المقدسة.. يعد أطول المسارات الروحية فى العالم حيث يبلغ طوله 3500 كيلومتراً، سارت فيه العائلة المقدسة عبر مصر وباركت أرضها من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها.
قال قداسة البابا تواضروس الثاني: “إن هذه الرحلة سبب بركة لبلادنا مصر. الكثير من المصريين يشعرون بوجود العائلة المقدسة معهم كل يوم سواء من يسكن منهم في البلاد التي زارتها أو من يواظب على الصلوات والتسابيح في الأديرة والكنائس التي أقيمت في مسارها”
تعددت نقاط المسار واختلفت طبيعتها مع مرور الزمان، منها ما قاوم الزمن عبر قرون أو ما احترق أو تهدم ثم أعيد بناؤه، ومنها ما اندثر واختفى من على الخريطة.
تاريخ طويل حفظته الكنيسة القبطية في تراثها ترصده الميامر التاريخية وكتب الكنيسة كالسنكسار والدفنار ويوصفه الرحالة والمؤرخين القدماء وتشهد عليه الخرائط والمخطوطات، فتظهر نقاط تتتابع لتكون خريطة مليئة بالبركات.
ضمن النقاط على هذا المسار نقطة عرفت باسم “المحمة” ، يذكرها أبو المكارم (القرن 12 / 13) في كتاب “تاريخ الكنائس والأديرة” (الجزء الأول ص 75) “المحمة من الشرقية بها بيعة للسيدة العذراء الطاهرة ويجاورها بئر معين وعليها قبة محكومة طوب أجر. وذكر أن سيدنا المسيح ووالدته العذراء والشيخ البار يوسف النجار جلسوا عند هذا البئر وشربوا منه وكان الناس يأتون إلى هذا البئر ويستحمون منه ويشفون من أمراضهم ويحملوه إلى منازلهم. وكانت هذه البيعة قد تهدمت وجددها أولاد سلسيل وكرزها أنبا غبريال أسقف أشموم ومعه جماعة أساقفة وكان تكريزها في الثامن من بؤونة سنة تسعمائة وواحد للشهداء الأبرار صلاتهم معنا أمين”
وعلق المتنيح الأنبا صموئيل أسقف شبين القناطر وتوابعها أن: “المحمة لا يُعرف مكانها حالياً، وتوجد المحسمة بالقرب من التل الكبير، وتقع المحسمة القديمة اليوم بين مدينتي أبو صوير والقصاصين بمحافظة الإسماعيلية.”
ويقول العالم “إميلينو” في “جغرافية مصر في العصر القبطي” (1893م) عن تحديد موقع المحمة: “لم يترك لنا هذا المكان أثراً في مصر الحالية، ومع ذلك فمن الواضح أنه لابد كان في شمال شرق مصر لأنه لو لم يكن كذلك لما استطاعت العائلة المقدسة أن تعود إلى فلسطين” ويحدد اميلينو موقعها بين بيلوز ومجدل القديمة.
وهناك رأيٍ أخر يوضحه المتنيح نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات القبطية والبحث العلمي أن المحمة هي مسطرد وذكر ذلك في كتاب دير المحرق في منتصف القرن العشرين وفي عدد الأحد 15 – 6 – 1980 من جريدة وطني: “المحمة كلمة عربية مشتقة من الفعل العربي “حم” ومنه استحم أي اغتسل بالماء. أما المحمة فهي مكان الاستحمام، وسميت البلدة كذلك لأن العذراء أم النور أحمت هناك في هذا المكان مولودها الإلهي وغسلت ملابسه، وهذا المكان يسمى الآن مسطرد” ونقلت عنه الكتب الأخرى بعد ذلك هذا الرأي.
جاء في كتاب الأستاذ الدكتور اسحق ابراهيم عجبان عميد معهد الدراسات القبطية، “رحلة العائلة المقدسة في أرض مصر” ذكر الرأيين، الأول هو أن المحمة هي كنيسة مسطرد حالياً، مسترشداً بكلام المتنيح الأنبا غريغوريوس، أما الرأي الثاني هو وجود نقطة مهمة اسمها المحمة وهذه النقطة اندثرت، واسترشد فيه بكتاب محمود رمزي: “القاموس الجغرافي للبلاد المصرية من عهد القدماء المصريين إلى سنة 1945م” ففي قسمه الثاني الجزء الأول، ص 71 : “المحسمة القديمة هي من القرى القديمة اسمها المحمة وردت في معجم البلدان قرية في كورة الشرقية، ووردت في قوانين الدواوين المحمة من تيه بني اسرائيل، وفي قوانين ابن مماتي المحمة من أعمال الشرقية.”
اليوم تقدم “وطني” بحثاً علمياً عن نقطة المحمة وماذا قيل عنها في التاريخ للباحث في التاريخ القس بيجول عبدالله زكى كاهن كنيسة الانبا بشاى والانبا بطرس بالزقازيق باحث ماجستير قسم تاريخ الكنيسة بمعهد الدراسات القبطية ومسئول مركز بوباسطس للتاريخ القبطى بالزقازيق، قدمه في ملتقى ” تراث الأجداد في عيون الأحفاد” بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية تحت رعاية “مؤسسة سان مارك لحفظ التراث” يوم السبت 2-10-2021
وفي حوار مع القس بيجول استعرض وجهات النظر المختلفة حول نقطة كان لها شأن على مسار العائلة المقدسة وجعلت الكثير من المؤرخين يتكلمون عنها في كتاباتهم.
ماذا تخبرنا الميامر عن نقطة المحمة؟
ميمر الأنبا زخارياس أسقف سخا كُتب في القرن السابع الميلادي، وتم نسخه عدة مرات منها النسخة العربية الموجودة في الفاتيكان التي نسخت في القرن ال18
ومن نص ميمر الأنبا زخارياس (مخطوط 170 فاتيكان) عن رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، جاء:
“ولم يزالوا سائرين من ذلك المكان إلى أن وصلوا إلى مكان قفر فأقاموا فيه تحت شجرة كانت هناك عين ماء واغتسل الرب يسوع المسيح فيها وغسلت العذراء قماشه فيها وسمي ذلك الموضع المحمة إلى هذا اليوم، ومن ذلك المكان مضوا إلى مدينة بلبيس”
وهنا وضح الميمر أنهم بعد أن تركوا تل بسطا توجهوا إلى المحمة وكانوا في مكان قفر أي مكان غير مأهول وبعدها توجهوا إلى بلبيس.
ومن نص ميمر الأنبا زخارياس من القرن 14 (مخطوط 123 في كنيسة أبو سرجة) عن رحلة العائلة المقدسة، وهو أقدم ميمر موجود الأن، جاء:
“فقال قلوم ليوسف قم خذ الصبي وأمه وامض من هذه البلد لأن أهلها منافقين ولا يرحموهم وأن يوسف قام ومضى من بسطه سراً وأخذوا بحري مشرق إلى أن وصلوا مكان قفر برية فاقاموا فيه تحت شجرة كانت هناك في ذلك الموضع وأنشأوا في ذلك المكان عين ماء واغتسل الرب يسوع في ذلك العين وغسلت العذراء قماش الطفل يسوع فيه فسمي تلك الموضع المحمة إلى هذا اليوم ومن ذلك المكان مضوا إلى مدينة بلبيس..”
في هذه النسخة الأقدم من نفس الميمر نجد قصة المحمة مفصلة أكثر، وحدد بها موقع المحمة (بحري مشرق بسطة) أي شمال شرق مدينة بسطا، وهذا بسبب أنه في ذلك الوقت كانت هناك كنيسة عامرة في المحمة وكان بها احتفالات عظيمة، ولكن وقت القرن ال18 كانت الكنيسة قد تهدمت ولم يكن هناك أي أقباط في المنطقة، لذا تم اختزال بعض تفاصيل القصة من الميمر الخاص بالقرن ال18
ميمر الأنبا زخارياس من القرن ال18
ميمر الأنبا زخارياس من القرن ال14
هل ذكرت المحمة في تاريخ وطقوس الكنيسة؟
كتب أبو المكارم (القرن 12 / 13) في كتاب “تاريخ الكنائس والأديرة” يصف ما رآه وعاصره عام 1185م (901 ش) وذكر طقس الإحتفال في كنيسة المحمة حيث كان الناس يأتون ويستحمون في البئر ويشفون من أمراضهم. وذكر أيضا أن هذه الكنيسة كانت تهدمت وأعيد بنائها وقام الأنبا غبريال أسقف أشموم وكرس الكنيسة يوم 8 بؤونه عام 901 للشهداء أي في أواخر القرن ال12
أما طقس الكنيسة المقروء في السنكسار (من القرن ال13 ) والدفنار التي يتم قراءتهما بالكنيسة فيتضمنا في قراءات يوم 8 بؤونة وهو اليوم المذكور في كتاب أبو المكارم، يوم تكريس الكنيسة بالمحمة الآتي:
السنكسار: “في هذا اليوم تذكار الكنيسة المقدسة كنيسة السيدة والدة الإله المعروفة بالمحمة حيث ينبوع الماء الفايض من البركة التي استنبعتها والدة الإله عند عودتها من أرض مصر..”
من السنكسار نعرف أن تذكار تكريس الكنيسة أصبح عيداً سنوياً يحتفل به في نفس الوقت من كل عام، فقد حول الأقباط عيد تكريس الكنيسة بدلاً من يوم واحد في العمر إلى احتفال سنوي كل 8 بؤونة، وذلك يوضح أهمية هذا المكان المقدس بالنسبة للكنيسة القبطية في ذلك الوقت وحجم وأهمية هذه الكنيسة في القرن ال13و 14
أما الدفنار الذي يقال في التسبحة في نفس اليوم فيجيء فيه: “اليوم الثامن من شهر بؤونة تذكار كنيسة العذراء المعروفة بالمحمة.. ”
أين تقع نقطة المحمة؟
على مدار التاريخ، كان حكام مصر يقومون بعمل مسح للأراضي لحصر الأراضي المزروعة وأماكن العمران لتقدير الضرائب، ومن هنا ظهرت القواميس الجغرافية ومن أشهرها: ابن المماتي (من القرن 12) في كتابه “قوانين الدواوين” وياقوت الحموري (من القرن ال13) في كتابه “معجم البلدان” وابن دقماق (من القرن 14) وابن الجيعان (من القرن 15)
ابن المماتي يذكر النقطة محل دراستنا باسم “المحمة بالشرقية”، والحموري ذكرها “المحمة” أيضا، وابن دقماق سماها “المحمة بالشرقية” وزاد عليها معلومة “من تيه بني إسرائيل” أي من الأماكن التي سار فيها بني إسرائيل أثناء خروجهم من مصر، وهذا يعطي تلك النقطة قيمة تاريخية أكبر.
ثم تطور اسمها إلى “المحمية” في قاموس ابن الجيعان، وفي القرن ال 19 في “دليل الأراضي المصرية” عرفت بالمحمية (وهي المحمة بولاية الشرقية) حيث ورد ذكر الاسمين معاً.
وفي عام 1831 تغير اسمها من “المحمية” إلى “المحسمة” وفي عام 1930 وأيضا من مرجع “القاموس الجغرافي” لمحمد رمزي الذي كان يذكر اسم المكان من أيام قدماء المصريين حتى عام 1945م تقسمت المحسمة إلى نصفين بسبب امتدادها، وعرفت الأصلية باسم “المحسمة القديمة” أما المستجدة أصبحت “المحسمة الجديدة”
ماذا عن الخرائط في العصور المختلفة؟
تظهر المحمة في خريطة من العصر الفاطمي على مسار ترعة الإسماعيلية (المعروف وقتها بخليج أمير المؤمنين)
أما في العصر المملوكي فظهرت المحمة في نفس المكان على الخريطة ضمن الشرقية، حيث أن الشرقية كانت ممتدة إلى ناحية الشرق قبل ظهور مدن القناة.
ثم ظهرت المحمة أيضا في كتاب “الجغرافيا الإقتصادية والإدارية لمصر” تابعة مركز الزقازيق لعام 1902 م إصدار وزارة الأشغال العمومية
أما الآن فتظهر نفس النقطة وتسمى “المحسمة” لكنها دخلت في النطاق الجغرافي لمحافظة الإسماعيلية.
ومن كل تلك الخرائط والقواميس الجغرافية تم الاستدلال على مكان نقطة إسمها “المحمة” شمال شرق تل بسطا ولم تتغير من القرن ال12 حتى يومنا هذا، ولم تندثر بل تغير اسمها إلى المحمية ثم المحسمة ثم أصبحت أخيراً المحسمة القديمة ولكن لا يوجد بها أثر لكنيسة.
أين ذهبت كنيسة المحمة؟
استمر ذكر نقطة المحمة حتى القرن ال14 في يوم 8 بؤونة من كل عام وهذا ما نفهمه من ميمر الأنبا زخارياس (القرن ال14) الذي ذكر بالتفصيل كل المعلومات المتعلقة بها.
ووردت أيضا في سنكسار رينه باسيه (عن مخطوط عربي باريس 4870) من نهاية القرن ال14، حيث سرد الآتي:
“في مثل هذا اليوم تذكار كنيسة السيدة والدة الإله المعروفة بالمحمة حيث ينبوع الماء الفائض من البركة التي استنبعتها والدة الإله عند عودتها من أرض مصر لأن يوسف لما ظهر له الملاك في الحلم قائلاً قم خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض مصر وصعد إلى أوائل الصعيد ، فلما مات هيرودس ظهر له ملاك الرب وأمره بالعودة إلى الشام وورد على المحرقة ثم إلى مصر ومنها إلى المطرية ومنها إلى المحمة فاستنبعت هذه العين وهي باقية إلى يومنا هذا تأتي إليها الناس من كل بلد ومن كل جنس يستشفون بالسيدة ويتباركون من المكان ومن العين. شفاعة العذراء تحرسنا وتعضدنا إلى النفس الأخير. آمين”
وبمراجعة الميمر والسنكسار من القرن ال14 نعلم أن العائلة المقدسة مرت على نقطة المحمة في رحلة المجيء إلى مصر وكذلك وقت رحلة العودة إلى أورشليم. ونفهم أنه كان فيها الاحتفال كان كبيرا أشبه بالموالد السنوية التي تقام الأن.
ولكن في منتصف القرن ال15 اختفت المحمة من الكتب تماماً حتى أن المقريزي في منتصف القرن 15 أصدر كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” والمعروف بـ “الخطط المقريزية” والذي يذكر فيه جميع الكنائس الموجودة في القطر المصري في عهده، ولم تذكر المحمة ضمن الكتاب، وذلك لأنها تعرضت لحريق وتهدمت.
وفي نفس السياق ذكر المقريزي في الجزء الثاني من كتابه “الخطط المقريزية” أنه في نصف القرن ال14 عام 1321م تعرضت كنائس كثيرة للحرق في مصر، وتم حصر هذه الكنائس المحترقة في كتابه ذاكراً كنائس القاهرة بالإسم، وكنائس المحافظات بالعدد ومنها 3 كنائس في الشرقية، وكان ذلك بسبب الاضطهاد والحروب.
ومن ذلك الوقت اختفى المسيحيين من نقطة المحمة واندثرت الكنيسة تماماً من هناك.
وما علاقة المحمة الأولى المندثرة بكنيسة المحمة بمسطرد؟
في نفس الوقت الذي اختفت فيه كنيسة المحمة من الجغرافيا والتاريخ، واندثرت من شرق الدلتا، كتب المقريزي أن أهم كنيسة في شرق الدلتا في ذلك الوقت هي كنيسة مسطرد.
وكنيسة مسطرد تم ذكرها أيضا في القرن ال12 على لسان أبو المكارم والتي كانت مرتبطة بمنطقة المطرية، (التي نستطيع أن نسميها المحمة الثانية حيث يذكر التاريخ أن العذراء حمت السيد المسيح في المطرية أيضا) حين تهدمت كنيسة المطرية، ففي تلك الفترة توجه الأقباط أثناء احتفالاتهم بالعائلة المقدسة لزيارة البئر والشجرة بالمطرية ثم كانوا يستكملون احتفالهم بصلاة القداس في مسطرد.
واتجهت كل الاحتفالات الخاصة بالعائلة المقدسة بعد هدم كنيسة المطرية واندثار كنيسة المحمة الأولى إلى كنيسة مسطرد وهي إحدى النقاط التي مرت عليها العائلة المقدسة في رحلة العودة وتقع في جنوب نقطة تل بسطا.
من هنا حدث الخلط بين ربط كنيسة مسطرد بالمحمة الأولى (موقعها شرق بسطا) التي اندثرت في القرن ال15 وتقليد حمى المسيح في مسطرد المرتبط بأحداث العائلة المقدسة في المطرية القريبة من مسطرد ومرتبطة معها تاريخياً وطقسياً عبر القرون.
ما أهمية نقطة المحمة؟
– أنها مذكورة في تاريخ الكنيسة ضمن نقاط المجئ والعودة، ومعنى ذلك أن السيد المسيح زارها مرتين.
– تحديد بمكان شرق بسطا يعطي منطقية لمسار العائلة المقدسة الهاربة ويفصل مسارها في شرق الدلتا كله.
– هي إحدى النقاط التي تم تسميتها على أحداث العائلة المقدسة بها وهو حدث الاستحمام، ولا يشابهها في هذا إلا نقطة سخا (بيخا ايسوس) أو قدم المسيح والتي سميت نسبة لقدم المسيح الذي طبع على الحجر هناك.
– نقطة المحمة المذكورة في شرق تل بسطا كانت أرضاً عاش بها شعب بني إسرائيل أثناء وجودهم في مصر، فهي مرتبطة بالأحداث الكتابية أيضا.
– كانت نقطة مهمة لها احتفال سنوي بالعائلة المقدسة مذكور في كتب الكنيسة يوم 8 بؤونة، وله ذكر تفصيلي في السنكسار والدفنار وهذا غير موجود في باقي نقاط المسار إلا في المحرق.
حرصت “وطني” على عرض كافة الآراء والمراجع التي ذكرت تلك النقطة “المحمة” التي كانت مكان احتفال عظيم ولها بركات شفاء للمرتادين عليها، فإن كانت نقطة مندثرة لها هذا التأثير العظيم فكم من بركات تحل علينا من المسار كله.. حقا مبارك شعبي مصر.