لا شك أن المحبة هي الفضيلة الأولي في المسيحية, وقد جعلها السيد المسيح علامة للمسيحية فقال بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي, إن كان لكم حب بعضكم نحو بعض (يو 13:35). والقديس بولس فضل المحبة علي الإيمان والرجاء, فقال هذه الثلاثة, ولكن أعظمهن المحبة وقال إن المحبة لا تسقط أبدا (1كو 13:8, 13).
ومع ذلك فقد توجد محبة ضارة. ويذكرنا بهذا قصة استشهاد القديس أغناطيوس الإنطاكي, حين أحضروه إلي رومية, لكي يلقي إلي الأسود الجائعة فتأكله, فلما عرف ذلك المسيحيون في رومية أرادوا أن يخطفوه لينقذوه من الموت, فأرسل لهم القديس أغناطيوس رسالة روحية مؤثرة, منعهم من ذلك قائلا:
أخشي أن محبتكم تسبب لي ضررا.
لقد وصل إلي نهاية المطاف في غربته في هذا العالم, وعما قليل سينال إكليل الشهادة ويصل إلي الفردوس. ولكنهم يخطفهم له ـ ولو بعامل المحبة ـ سيعطلون مسيرته عن الوصول إلي تلك المتعة الروحية, التي تنتظره بعد الاستشهاد… فتكون محبتهم له ضارة روحيا.
وحديثنا اليوم عن المحبة الضارة…
ولعل من أسباب المحبة الضارة, أن تكون بغير حكمة, أو بعيدة عن الروحيات, أو تتصف بالذاتية, أو متعارضة مع محبة الله.
الأسلوب الخاطئ
لا يستطيع بها أحد منا أن ينكر محبة الأم, حتي أنه يضرب بها المثل في الحنان وفي العمق. ومع ذلك يمكن أن أما تحب ابنها بطريقة ضارة, لقد أحبت رفقة ابنها يعقوب بطريقة ضارة.
كانت تريده أن ينال بركة أبيه قبل أن يموت, والمفروض أن عيسو كان البكر الذي ينال البركة. فدبرت رفقة حيلة يخدع بها يعقوب أباه إسحق الضرير وقتذاك مدعيا أنه عيسو! ولما أدرك يعقوب خطورة هذا الخداع, خاف أن يكشف الأمر, فقال لأمه في خوف .. فأجلب علي نفسي لعنة لا بركة, أجابته أمه لعنتك علي يا ابني . اسمع لقولي (تك 27:6ـ13) وسمع لقولها وخدع أباه, فماذا كانت النتيجة؟!
لقد أضرته أمه بمحبتها. وكما خدع أباه, دخلت الخديعة إلي حياته!!
فخدعه خاله لابان, ووجه ليئة بدلا من راحيل (تك 29:25). واضطر أن يتزوج الاثنتين, وقاسي من تنافسهما وغيرتهما الواحدة من الأخري. وخدعه خاله أيضا فغير أجرته عشر مرات (تك 31:41). وخدعه أولاده. وقالوا له أن وحشا افترس ابنه وأروه قميص يوسف بعد أن غمسوه في الدم. فناح عليه وبكي ورفض أن يتعزي (تك 37: 31ـ35). وأخيرا لخص يعقوب حياته بقوله لفرعون أيام سني غربتي… قليلة وردية (تك 47:9).
ونال يعقوب جزاء طاعته لمحبة أمه الضارة.
* لعل من أساليب المحبة الضارة بأسلوب الطريق الخاطئ: الأخطاء الخاصة بالتزويج: أما الإسراع بالتزويج قبل النضوج, أو قبل التوافق أو اختيار زوج تظن فيه الأم بكل الحب أنه صالح لابنتها, فتدفعها إلي الزواج به دفعا. ويكون في ذلك ضرر لها كل الحياة..
المديح الضار
لقد أعجب الشعب بالفتي داود في انتصاره علي جليات الجبار. وهتفت النسوة قائلات في إعجاب ضرب شاول ألوفه, وداود ربواته. وكان هذا المديح سبب غيرة شاول الملك وحسده وحقده علي داود. وفي ذلك يقول الكتاب فاحتمي شاول جدا, وساء هذا الكلام في عينيه… وقال: أعطين داود ربوات, وأما أنا فأعطني الألوف. وبعد فقط تبقي له المملكة (1صم 18:8,7).
وكان مديح النساء لداود سبب تعب لداود, إذ عمل شاول الملك علي قتله…
طارده من برية إلي برية. وعاش داود مشردا مستهدفا طول فترة حياة شاول كلها. لأن المديح الذي مدحته به النساء لم يكن بحكمة, وصادف مشاعر رديئة عند الملك.
مثال آخر: مديح الشعب لهيرودس.
لبس هيرودس الحلة الملوكية, وجلس علي عرشه يخاطب الشعب, فصرخ الشعب هذا صوت إله لا صوت إنسان (أع 12:22)… وصادف هذا الهتاف كبرياء دفينة في قلب الملك, فلم يحتف منه. لذلك ضربه ملاك الرب في الحال, لأنه لم يعط مجدا لله, فأكله الدود ومات…
ويمثل المديح الخاطئ في ضرره, الدفاع عن الأخطاء.
إنسان تدافع عن أخطائه ـ بدافع من الحب الخاطئ له ـ وقد يؤدي ذلك إلي هلاكه..!!
وقد يحدث هذا في جو الأسرة والأصدقاء, أو في تملق الملوك والزعماء.. كما حدث أيضا في المجال الديني من أتباع الهراطقة والمبتدعين.
لولا دفاع محبي الهراطقة عنهم, والتفافهم حولهم, ما نما خطرهم وهلكوا..
ويحدث هذا مع اتباع أي شخص, حينما يؤلهونه أو يعصمونه من الخطأ, ويدافعون عنه بكل قوة. فيستمر في الخطأ ويهلك.
إنها محبة خاطئة, بل محبة ضارة. سواء كانت عن ثقة واقتناع, أو عن تملق رخيص.
إن الأنبياء الكذبة لما تملقوا آخاب ملك إسرائيل, تسببوا في موته.
كان خارجا للحرب ضد الأراميين, وكان يسأل الأنبياء: هل سيكون الله معه وينتصر أم لا؟ وميخا النبي تنبأ له بالصدق أنه إن حارب سينهزم. بينما الأنبياء الكذبة مدحوا الملك وبشروه بالانتصار وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قرني حديد. وقال: هكذا قال الرب: بهذا تنطح الأراميين حتي يفنوا (1مل 22: 11ـ 12). وأطاع ملك إسرائيل كلام أولئك المادحين, وخرج للحرب. وانهزم ومات (1مل 22: 11, 12: 37 ـ 39).