يقول سفر الحكمة:وإن دهشوا من قدرتها وفاعليتها,فليفهموا منها كم مكونها أقدر منها, فإن عظمة المخلوقات وجمالها يؤديان بالقياس إلي التأمل في خالقهاحكمة13:4-5, قليلون هم الذين يشعرون بالجمال الموجود من حولهم سواء في خليقة الله البديعة, أو ابتسامة طفل, أو نظرة رجل مسن وغير ذلك؟ يحكي عن رسام شهير كان يقوم بإعداد لوحة حائط ضخمة الحجم, فقام بوضع السقالة ليدهن أرضية اللوحة, ثم جاء أحد الأصدقاء لزيارته لكنه ظل واقفا عند الباب في صمت لأنه وجده مشغولا ومنهمكا في إعداد اللوحة ولاحظ كيف يقوم بدهنها بدرجات مختلفة من اللون الرمادي الداكن, وعندما أراد الفنان أن يري الأرضية التي يرسمها من زاوية أفضل بدأ في العودة للخلف بظهره, وعيناه لم تفارقا اللوحة, حتي أنه اقترب من صديقه الذي يقف هناك لكنه لم يلمحه أو يشعر به قط, لأنه كان مشغولا تماما بالتركيز في لوحته, وبعد لحظات من الإمعان فيها, صرخ بصوت عال هاتفا بكل سرور ما أجمل هذه اللوحة! إنها بديعة ورائعة وذات جمال خلاب فتعجب الصديق مما كان يسمعه فقطع صمته ليعلن له عن وجوده قائلا:أين هذه اللوحة الرائعة التي تتحدث عنها؟ أنا لا أري سوي ألوان داكنة قاتمة بلا معني! فرد عليه صديقه الفنان مبتسما: معذرة يا صديقي,عندما تنظر أنت إليها,لا تري سوي ما هو مرسوم بالفعل,أما أنا فعندما أنظر إليها, فإنني أري ما سوف يرسم عليها, ومما لاشك فيه أن هناك فرقا شاسعا بين النظرتين! لا نستطيع أن ننكر وجود الجمال من حولنا وفي أشياء كثيرة لا حصر لها, ولكن ليس جميع الناس قادرين علي الشعور به, لأنه يتلألأ للأشخاص حسب نظرتهم إليه, ماذا يعني الجمال بالنسبة لنا؟ هل هو الوجه الجميل الذي نراه في بعض الناس؟ هل هو في الملابس الأنيقة باهظة الثمن؟ فالذي يتأمل جمال الخليقة بعين ثاقبة ونقية, يستطيع أن يكتشف نور وبهاء مبدعها وخالقها إذا لايكفي أن نملك عينا سليمة لنري الجمال, ولكن يجب علينا زن نتحلي بالشعور الداخلي الذي يساعدنا علي التمتع بكل ما هو جميل موجود في حياتنا اليومية, حتي نصل من خلاله إلي المبدع الحقيقي الذي منحنا هذه النعمة,للأسف نحن نعيش في عصر الصور السريعة, معتمدين علي الرؤية السطحية فقط, دون التمعن في جمالها أو تأملها كما أننا فقدنا الإحساس بالجمال الحقيقي للمخلوقات والأشياء التي ينبعث منها نور الله, وعندما نتحدث عن جمال الإنسان, ليس المقصود منه جمال الأجسام وشكلها لأن عظمة السر في الأرواح والجمال الداخلي لابد أن يشع علي الوجه وسلوك الإنسان وتصرفاته وكلامه,كما كان أحد الآباء ينصح ابنته قائلا:كوني طيبة القلب, تصبحين جميلة لأن الجمال الحقيقي ليس في الثياب التي نرتديها مهما كانت ثمينة وأنيقة, أو المساحيق التي توضع علي الوجوه أو العطور التي نتعطر بها, ولكنه شعاع روحاني ينعكس علي الإنسان فيكسوه سحرا وجمالا وجاذبية, كل هذا نكتشفه في الأشخاص الذين يتحلون بالأخلاق الحميدة والمعاملات الراقية, نحن نعيش في عالم تغيرت فيه مقاييس الجمال والتمتع بمخلوقات الله, لكن من يريد رؤيتها والشعور بها, يجب عليه أن يدرب نفسه علي الرؤية والمشاهدة بحب وصفاء ونقاء, خلاف ذلك سيري فيها أشياء عادية لا معني لها, إن النور الإلهي يقع في كل القلوب ولكن الصافية وحدها هي التي تعكس في أمانة هذا النور,لذلك نحن بحاجة إلي وقفة مع الذات لنتأمل ونتذوق الجمال الذي يحيط بنا, سواء في الأشياء الظاهرة أو الخفية, كما أننا نستطيع أن نتمتع بجمال الخليقة في كل لحظة, وبدون بذل أي جهد أو إهدار الوقت, تكفينا لحظة سريعة فيها ننحني نحو زهرة لنستنشق عبيرها ونتمتع بألوانها المبهرة أو نحدق في عيون طفل رمز الجمال الحقيقي والشفافية والبراءة,أو نتأمل الأفق البعيد للبحر لنشعر بوجود الله الدائم في حياتنا,وكما يرنم داود النبي في المزمور: السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديهمزمور19,إذا لا يكفينا أن نمتلك البصر لنري جمال الكون البديع من حولنا, ولكن يجب أن نتحلي بالحب لجميع المخلوقات, حتي نستطيع أن تكتشف سر جمالها الحقيقي, ونختم بكلمات المؤلف العظيم شكسبير: ليس هناك جميل ولا قبيح وإنما تفكيرك هو الذي يصور لك أحدهما.