منذ سنوات كتبنا عن رجل كفيف يدعى عم صبحي، كان القاء نظرة واحدة على وجهه البائس كفيل بإصابة من يراه بجرعة مكثفة من الضيق والحزن، كان بلا عون، بلا نور، بلا بصر لكنه ممتلىء البصيرة، وتبنى باب افتح قلبك حالته، واحتياجات اسرته، المكونة من ثلاث بنات صرن اليوم شابات وحيدات، وزوجة، وبعد رحيل عم صبحي، الذي عاش حياة ملؤها القهر والتشرد، والإذلال، صارت الفتيات بلا عائل، ولا كبير، تركهن للخواء والفقر والوحدة، بلا حيلة، مات فقراً وقهراً وحرماناً .
تحت خط الفقر لم تكن لديه فرصة للحياة، ولا للصمت ولا للصراخ، لم تكن لديه فرصة إلا للانتظار، انتظار العون أو الموت. بعد ان التهمت دهانات الموبيليا عينيه، فكف بصره بعد أن أصابه انفصال بالشبكية في العين
اليسري ومياه بيضاء ، على العين اليمنى، ولم يتم علاج كليهما فكف البصر ، صار كفيفاً
خاوي اليدين بلا مال ولا عمل ولا مورد رزق.
سردنا هذه التفاصيل المريرة وآثارها على حياة أسرته عدة مرات من قبل، في كل مرة
كانت طلباته بسيطة، مرتبة لسرير الفتيات الثلاث، بوتاجاز، بعض الحلوى التي يبيعها ليقتات من ثمنها. برغم أنه يحيا في سكن غير آدمي بالمرة، كان قنوعاً، رغم ان منزله كان شبه خاليا من الاثاث.
يا إلهي ما كل هذا العوز، الذي لا ينتهي والمال لا يكفي الجميع؟ والبعض في حياته لاهياً
لايعلم ما يعانيه شركاؤه في الإنسانية، الغلابة في طاحونة الحياة مفرومون، يحيون تحت خط الفقر في ركن بعيد لا يتمكن حتى الفقراء من رؤيتهم لأنهم سقطوا من وعي الجميع، رضخوا للذل تسليماً بالأمر الواقع فلا فرصة حتى للاعتراض، رهانهم الوحيد على الله باسط الأيادي بلا مطالبة، رهانهم الوحيد أنهم حتى لو سقطوا من وعي الناس فلن يسقطوا من رعاية الله.
أتذكر حينما ذهبت إلى مسكنه المعدم، لم أجد سوى سريرين وتليفزيون صغير، وفي الصالة كنبة قديمة، وفي إحدى الحجرتين-اللتين تتكون منهما الشقة-تبعثرت ملابس الفتيات على الأرض متفرقة متبعثرة فلا دواليب ولا أي شيء يمكنهن أن يضعن فيه ملابسهن أو حاجاتهن. كل هذا سردناه من قبل ربما بذات العبارات ونفس الوصف، لكنه لم يكن كافياً لسداد حاجة البنات.
حينما ذهبت اليهم في منزل اقرب الى المنفى وسط حي الطوابق، نظرت حولي فلم أجد أي منفس للهواء، شباك صغير يطل على حارة ضيقة جداً وأربعة جدران كالسجن خلت حتى من المراوح، وحرارة الفقر ترتفع صيفاً وشتاء، فتنصهر النفس