جودت جبرة: وداعاً الدكتور فوزي إسطفانوس.. عاشق التراث القبطي
هاني تكلا: عمل دؤوب بكل تواضع
سعد ميخائيل: صاحب رؤية وتميز في تعزيز الدراسات القبطية
إبراهيم ساويرس: مثل أعلى لشباب كثير
لاشك من وجود علماء وباحثين كثيرين متميزين في مجال الدراسات القبطية ومنهم من برعوا في عطاءهم على مستوى عالمي.. لكن ما تميز به الدكتور فوزي إسطفانوس أنه برغم انشغاله في عمله المتميز في مجال التخدير في مستشفى كليفلاند، إلا أنه انشغل بحبه للدراسات القبطية وكأنه متفرغ تماماً لهذا.. حتى بعد تقاعده من مهنة الطب، اهتم بحفظ تراث الكنيسة وواصل تلك المسيرة إلى يوم انتقاله.. حبه للدراسات القبطية كان بمثابة نبض القلب الذي يحيي باقي أعضاء الجسد، فكان مثل أعلى لكثيرين من العلماء والباحثين في مجال الدراسات القبطية، ليس في قدره العلمي فقط، ولكن في تواضعه من أجل علو شأن التراث القبطي.
وداعاً دكتور فوزي إسطفانوس.. عاشق التراث القبطي
فقدت الإنسانية عالماً جليلاً كرس حياته كطبيب ذو سمعة عالمية في خدمتها.. وخسرت الكنيسة القبطية وعلم القبطيات عاشقاً للتراث القبطي ومؤسس مؤسسة مارمرقس لدراسات التاريخ القبطي.
أسس الراحل العظيم أهم قسم للتخدير لاسيما في عمليات القلب بالولايات المتحدة الأمريكية بمدينة كليفلاند، كما كان له دور كبير في تشييد كنيسة مارمرقس بكليفلاند في أوهايو بأمريكا والمركز الثقافي القبطي بالأنبا رويس في مصر.
تتميز الكنيسة القبطية في معظم عصورها بأراخنتها العظماء، في الوقوف خلف بطاركتها وأساقفتها وتدعيم مشروعاتها في مختلف المجالات. وكان الراحل الدكتور فوزي إسطفانوس أحد هؤلاء الأراخنة الذين تفانوا في خدمة الكنيسة القبطية. وأود أن أتطرق لجانب واحد من خدمة هذه الشخصية الفريدة ولذكراه العطرة.
في أواخر عام 1996 أي منذ ربع قرن، إتصل بي الراحل الكريم تليفونياً موضحاً رغبته في إنهاء عمله كطبيب ليتفرغ لبدء مشروعاً يساهم في تدوين التاريخ القبطي والحفاظ على تراث الكنيسة القبطية، وبدعوة من الدكتور يونان لبيب رزق بمكتبه بجريدة الأهرام، إلتقينا ومعنا دكتور وليم سليمان قلادة والدكتور سليمان نسيم، وتم الاتفاق على بدء العمل في تأسيس مؤسسة مارمرقس لدراسات التاريخ القبطي. وللأسف الشديد رحل هؤلاء العلماء بعد سنوات قليلة من هذا اللقاء.
عرض الدكتور فوزي فكرة إنشاء هذه المؤسسة على مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث الذي بارك ودعم المؤسسة وأصدر طريق بركة في 23 / 2 / 1998 كما تكرم قداسته بمنح مكتباً للمؤسسة بالأنبا رويس. وبعدها أصدرت المؤسسة أول كتاب لها بإعادة طباعة كتاب “تاريخ الأمة القبطية” للمؤرخ يعقوب نخلة روفيلة بعد مرور مائة عام على صدور طبعة أولى عام 1897، وأحب القراء هذا الكتاب حيث أعيدت طباعته أربع مرات.
كان الدكتور فوزي إسطفانوس شغوفاً بتاريخ وتراث الكنيسة القبطية، فعكف على قراءة المراجع المهمة وحضور مؤتمرات القبطيات الدولية وغيرها، وفي شهر أغسطس عام 1999 نظم الأستاذ هاني تكلا مؤتمراً للدراسات القبطية بجامعة كاليفورنيا – لوس أنجيلوس والذي حضره الدكتور فوزي إسطفانوس، ومن محاسن الصدف أنني ألقيت محاضرة في هذا المؤتمر عن أهمية أثار وادي النطرون وضرورة تخصيص مؤتمراً دولياً لتناول الجوانب الحضارية المتعددة لأديرة وادي النطرون. وفي الحال عرض الدكتور فوزي بأن تتولى مؤسسة مامرقس تنظيم ندوة دولية لهذه المنطقة المهمة، وكانت رؤية الراحل الكريم أن إقامة مثل هذه الندوات في الأديرة القبطية لتوثيق علاقة علماء القبطيات الأجانب بالكنيسة القبطية وأديرتها، وتشجيع رهبانها على البحث العلمي في تراثهم القبطي.
تفضل قداسة البابا شنودة الثالث بإستضافة العلماء من مختلف أرجاء المسكونة في المقر البطريركي المتاخم لدير الأنبا بيشوي في فبراير عام 2002
فكانت فرصة عظيمة لمشاركة مصريين في هذه الندوة وحضور عدد كبير من الأساقفة والكهنة والرهبان ومتابعة محاضراتها القيمة.
أما العلماء الأجانب فقد استمتعوا بروحانية قداس كامل بالغة القبطية برئاسة صاحب النيافة الأنبا يؤانس – سكرتير قداسة البابا آنذاك، حيث تناغمت الألحان القبطية مع رائحة البخور في جدران كنيسة الملاك ميخائيل الأثرية في حصن دير الأنبا بيشوي. كما كان قداسة البابا شنودة يحضر ويتابع بعض محاضرات الندوة كلما سمح وقته.
كان دكتور فوزي إسطفانوس على علاقة رائعة بأساقفة مصر ورؤساء أديرتها الذين تباروا في إستضافة الندوات الدولية التي نظمتها مؤسسة مارمرقس، كل عامين في أحد الأديرة، والتي تناولت تاريخ المسيحية والرهبنة وآثارهما في أحد مناطق مصر.
وتمت تغطية معظم الإيبارشيات في مختلف المحافظات من خلال ثماني ندوات دولية على مدى ستة عشرة عاماً شارك فيها علماء من مصر والعالم، وتم نشر محاضراتها في ثمان مجلدات بمطبعة الجامعة الأمريكية والتي تمثل موسوعة لتراث مصر القبطي كتبها علماء متخصصون في جميع أنواع القبطيات.
كما أحب الدكتور فوزي إسطفانوس تاريخ إيبارشيات مصر فعمل على إصدار كتب باللغة العربية تناولت التاريخ والأثار القبطية لعدد من الإيبارشيات منها أسوان وسوهاج والجيزة وأسيوط وغيرها.
تمتعت مؤسسة مارمرقس بمحبة ورعاية وتدعيم غبطة البابا تواضروس الثاني، وكان قد تم تحديد موعد انعقاد الندوة الدولية لتاريخ المسيحية والرهبنة في مصر الوسطى في منتصف شهر فبراير 2013 في دير المحرق، واستعد العلماء المصريون والأجانب للحضور إلى هذا الدير. لم ينقضي آنذاك على جلوس قداسة البابا تواضروس الثاني على كرسي الكرازة المرقسية سوى ثلاثة أشهر، وتزامن ذلك مع فترة حكم الإخوان المسلمين لمصر، ولم يفكر الدكتور فوزي إسطفانوس نهائياً في تأجيل إنعقاد الندوة نظراً للظروف الأمنية في هذه الفترة في صعيد مصر. بل ذكر أن جميع المساهمين في هذه الندوة الدولية في حماية القديسة العذراء، وتوجه لمقابلة البابا تواضروس لمعرفة رأيه، فشجعنا قداسته قائلاً بأن هذه إرادة الله ليكون دير المحرق أول دير يتفقده قداسته بعد رسامته بطريركاً، فكانت فرصة رائعة للاجتماع بقداسته لمسنا فيها محبته الكبيرة لتاريخ مصر القبطي ولأثارها، وبمباركة قداسته بدأت مؤسسة مارمرقس مشروعاً ضخماً لتصوير وتسجيل الأديرة والكنائس القديمة، كما كلف قداسته المؤسسة بترجمة موسوعة القبطيات من الإنجليزية إلى العربية، وفي حبرية قداسته تم إعداد قاعة محاضرات بكافة التجهيزات بمقر المؤسسة، وبدأ عقد مؤتمرات لشباب الباحثين تحت عنوان “تراث الأجداد في عيون الأحفاد”
لم يدخر الراحل الدكتور فوزي إسطفانوس جهداً في التدعيم المالي لمؤسسة مارمرقس، فأوقف مبالغ مالية يتم الإنفاق من أرباحها على أنشطة المؤسسة لتستمر في أداء رسالتها، وفي السنوات الأخيرة من حياته عمل على تسليم المؤسسة لأجيال جديدة ممثلة في مجلس أمناء للإدارة والهيئة العلمية لتحرير مطبوعاتها.
كان الراحل العظيم مصدر إلهام وتشجيع لفترة ربع قرن من حياتي تميزت بالثراء في دراسة التراث القبطي ونشره علمياً. وداعاً دكتور فوزي إسطفانوس.. سيذكرك التاريخ ضمن أراخنة الكنيسة القبطية العظماء الذين أحبوا وتفانوا في خدمة تراث كنيستهم القبطية العريقة على مر العصور.
الدكتور جودت جبرة – أحد مؤسسي مؤسسة سان مارك لدراسة التراث القبطي وأستاذ في الدراسات القبطية بجامعة كليرمونت بكاليفورنيا، له العديد من الكتب والمطبوعات في مجال التراث القبطي
عمل دؤوب بكل تواضع
كان الدكتور اسطفانوس رجلاً عظيماً سيتذكره الكثيرون الذين بدأ معهم حياتهم المهنية.. والنهضة القبطية في مصر من خلال عمله الدؤوب مع مؤسسة القديس مرقس للتاريخ القبطي. لقد شاركت معه من خلال عملي في جمعية القديس شنودة الأرشمندريت القبطية منذ عام 1997.. وأذكر مدى تواضعه الشديد على الرغم من إنجازه في جميع مساعيه.. كان الدافع الأول في حياته خدمة كنيسته المحبوبة، كنيستنا القبطية، وكان يتقبل النقد وحتى الإهانات دون الرد بالمثل، لم يتفاخر أبداً بنجاحاته بل كان يلاقي التكريم والتقدير بكل تواضع.
هاني تكلا – العضو المؤسس لجمعية القديس شنودة، الأرشمندريت القبطي والمحاضر في مدرسة القديس أثناسيوس وسانت كيرلس اللاهوتية
المكافأة السماوية
يحزنني خبر أن رجل الله العظيم، ولكن إرادة الله أن يستقبل هذا الخادم العملاق الصالح مكافأته السماوية.
إلى جانب مسيرته الطبية الرائعة كرئيس لقسم التخدير في مستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة، كان الدكتور اسطفانوس صاحب رؤية وتميز غير عادي في تعزيز الدراسات القبطية.
سعد ميخائيل سعد – رئيس مجلس الدراسات القبطية بجامعة كليرمونت
مثل أعلى في العمل والنجاح والتواضع
لا توجد كلمات تعبر عن خسارتنا الفادحة برحيل الدكتور فوزي إسطفانوس، الذي استراح من أتعاب الأرض وسافر إلى موضع راحته وموطنه الأصلي في السماء. هو نموذج للنجاح في مصر والمهجر، أشهر وأهم طبيب تخدير مصري في الولايات المتحدة، وقد مد يد العون لجيل من الأطباء المصريين هناك.
دكتور فوزي طبيب المشاهير، الذي كان يتمتع بعلاقات داخل وخارج مصر عديدة. ومع ذلك كان يمشي باتضاع ومحبة، وكان يحادثني دوماً بلهجة أهل سوهاج المحببة إلى قلبينا.
رجل نموذج للنجاح لشباب كثيرين منهم أنا، فكان بالحقيقة مثل أعلى في العمل والنجاح والتواضع، كان عفيف اللسان ولا تختفي الإبتسامة من وجهه أبداً
صاحب فكرة، ومؤسس ومدير والممول الأكبر لمؤسسة سان مارك على مدى سنوات طويلة. جمعتني به جلسات عمل طويلة وكثيرة بالقاهرة وفي عدد من الأديرة القبطية وفي الولايات المتحدة أيضا. كان خبيراً بتاريخ القبط وعمارتهم وفنونهم برغم عدم دراسته للتاريخ.
منذ عدة أشهر أسند لي مراجعة إحدى مقدماته لأحد إصدارات المؤسسة، وفي أحد الندوات ذكرت شيئا من سيرته الذاتية بجمعية الأثار القبطية. واتفق الجميع أنه عطاء هذا الرجل كان فوق التصور، سواء جهد أو وقت أو مال لدعم الدراسات القبطية في مصر وخارجها.
مع كل ذلك كان ديمقراطي للغاية وكان يستمع للكبير والصغير، ولا يفرض رأيه، بل غالباً كان يطيع كطفل صغير ويقول بتواضع أنه “غير متخصص” وهو بالحقيقة أعلم من كثيرين في أهل التخصص.
كان يحب سوهاج جداً، ويسألني عنها وعن أهلها باستمرار، ويقول اننا تعرفنا متأخرا جدا وأنه لا يجد من الصحة والوقت ما يؤهله للعودة للسير في حواري سوهاج كما في أيامه الأولى.
إبراهيم ساويرس – باحث أثري وعضو بمؤسسة مارمرقس