كلما جلست إلي مائدة الطعام, ووجدت أمامي صحاف الطعام المختلفة المتعددة المتباينة الشهية, كلما تذكرت الإحصائية التي تقول أن هناك شخصا في العالم يموت كل 12 دقيقة من الجوع! وهذا يكفي لسد نفسي عن الطعام, وأحاول أن أتناوله بسرعة للتخلص من الألم الذي أشعر به! إذ كيف أتناول طعامي هذا الوفير وهناك أخ لي في أي مكان في العالم, أو أخت بالطبع, لا يجد هذا الطعام, ويموت جرعا؟!
الجوع عذاب ما بعده عذاب, لذلك نقول في أمثالنا الشعبية: الجوع كافر.. كما غني الشيخ إمام منذ خمسين سنة وأكثر أغنية تقول.. دا جوع البطن ده كافر وله حافر ولا السكين.., وفي أمثالنا أيضا نقول.. حلم الجعان عيش.. أي أن الجائع لا يحلم ولا يطلب أكثر من الخبز أو العيش لمجرد أن يسد رمقه ويتخلص من الجوع بمناسبة العيش فإن أجدادنا المصريين هم أول من عرف الخبز. تقول: أنا رويز في كتابها.. روح مصر القديمة:
يبدو أن أول خبز مخمر في العالم ظهر في مصر القديمة, كذلك أول الأفران المصنوعة من الطين, وبحلول عصر الدولة الحديثة, 1575ـ 1070ق م, كان المصريون يستخدمون أربعين نوعا من الخبز, المضاف إليه التين, أو العسل, أو المتبل بالأعشاب والبهارات مثل السمسم والكزبرة والينسون..).
ولأهمية الخبز أو العيش في حياتنا أطلقنا كلمة عيشة.. ويريد أن يأكل عيش.. وكله أكل عيش.. وفلان ده عيشته حلوة مستريحة.. أو دي عيشة تزهق وكذا.
نعود إلي الجوع الذي أصبح شبحا يهدد كل المجتمعات, حتي الغنية, فالفقر ينتشر في العالم, وأهم مظاهره عدم وجود الطعام وبخاصة العيش. هنك جوع اختياري وهو الذي يفرضه الإنسان علي نفسه دينيا أو مرضيا كدواء, لكن ما يهمنا هو الجوع الذي يفرضه الفقر علي الإنسان, أو الذي يفرضه الحكام المرضي كنوع من التعذيب, وهو أقسي وأعنف تعذيب. وقد أتيحت لي زيارة معسكرات التعذيب في ألمانيا وغيرها التي فرضها المجنون المريض هتلر, ورأيت العجب العجاب. ففي معسكر تعذيب.. بوخن فالد.. وجدت صورا لأحياء لا يمكن أن تعتبرهم أحياء بل هم هياكل عظمية خارج القبور, فقد كان المعتوه يمنع الطعام والماء عنهم حتي يموتوا, وقبل موتهم كان يقص شعورهم الصفراء ويحتفظ بها في أماكن معينة, ويقال إنه كان يصنع منها حبالا, وقد رأيت هذا بنفسي, كما كان يأمر أعوانه ومساعديه أن يستخدم جلود الموتي في صناعة الأباجورات, فتجد أباجورة مضيئة وهي من جلد إنسان وعلي هذا الجلد تقرأ اسم صابحها وربما تاريخ مولده. ويقال إنه كان يصنع من الجلود نعالا أيضا! كما كان هتلر يصنع من عظام ضحاياه نوعا من الصابون!! وأنا آسف لكتابة هذه المأساة لكنها الحقيقة المرة التي يجب أن نذكرها دائما حتي لا تتكرر, وحتي لا يفرض أي مجنون أو دكتاتور الجوع علينا.
تقول الإحصاءات الرسمية العالمية إن هناك 821 مليون جائع في العالم, وأن نقص الطعام في أفريقيا وصل إلي 23% وفي آسيا وصل إلي 11%, وأنه يوجد في العالم 151 مليون طفل يعانون من التقزم, أي أن أجسامهم لا تنمو النمو الطبيعي ككل البشر وهذا يهدد مستقبلهم ومستقبل الإنسانية بسبب عدم وجود الطعام الكافي لم!.
في كتابه: مجتمع جديد أو الكارثة.. يقول أستاذنا المفكر الكبير الدكتور ذكي نجيب محمود إنه قرأ مقالة في إحدي الصحف الإنجليزية أحدثت في نفسه مزيجا من الدهشة والغضب والتفكير. كانت المقالة عن استفتاء أجراه معهد جالوب المشهور علي عشرة آلاف إنسان, فكان من أهم نتائجه تلك الفروق الطويلة العريضة العميقة بين بلدان تقدمت وأخري تخلفت, وأخذ يتساءل: أهو عالم واحد هذا الذي نعيش فيه, أم هو في الحق عالمان! فيكفي مثلا أن تعرف بأن تسعمائة مليون شخص من سكان أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأقصي, يعيش الواحد منهم طول العام علي دخل أقل مما يكسبه العامل الأمريكي في يوم واحد!! ولذلك تبين من هذا البحث الإحصائي إن أهم ما يشغل الناس في البلاد الفقيرة هو تدبير الطعام لذويهم تجنبا للجوع. علي حين أن مشكلة الطعام هذه لا تطوف ببال عند سكان الأجزاء المتقدمة الغنية من العالم..
يضيف الدكتور ذكي نجيب محمود.. إن عالمنا كما هو قائم الآن يشقيه الفقر الفظيع في ناحية, ويفسده البذخ والإسراف في ناحية أخري ـ كتب هذا في الربع الأخير من القرن العشرين ـ وأن الموقف المأساوي الحزين ليضاف إليه جانب من السخرية اللاذعة, نسخر بها من أنفسنا حين نكتفي بأن نطلق علي القسم الأول وهو ثلثا سكان الأرض, البلاد النامية وعلي القسم الثاني ـ وهو ثلث السكان ـ البلاد التي نمت بالفعل, ومصدر السخرية اللازعة عندي هو في الإيحاء بأن النامية في طريقها إلي أن تلحق بالتي حققت نموها, مع أن الفجوة تزداد مع الزمن, لأن المتقدم يسرع في تقدمه بنسبة أكبر جدا من سرعة المتخلف في سيره إلي الأمام.. علي أن المتقدم والمتخلف في هذا التقسيم الحضاري, لا تحدده الحدود الجغرافية تحديدا فاصلا, لأن القسمين يتداخلان, بمعني أن تجد داخل البلاد المتخلفة فئات من أهلها تعيش علي المستوي العالي الذي يعيش عليه أهل البلاد المتقدمة, بل قد يزيد! فضلا عن وجود بلاد وضعتها ثروات أرضها في مقدمة الأغنياء, أما حضارتها فقد أمسكت بها مع الأسرة المتخلفة!!.. ويهمنا هنا أن نعرض لرأي الدكتور ذكي نجيب محمود في حل هذه المعضلة, أو بمعني أدق المأساة الإنسانية, وهو قد اهتدي بها عن طريق مؤلفي الكتاب الذي استعار منه عنوان كتابه.. مجتمع جديد أو الكارثة!
يقول المؤلف.. لأول مرة تلتقي أفكار الباحثين في الغرب والشرق إلي تصور معين أو حل لهذه المشكلة الإنسانية وهي الفقر والجوع, وتوصل هؤلاء إلي حقائق تقول.. إن العالم يقف علي شفا حفرة من نار, العالم كله المتقدم والمتخلف فالمصير واحد بالنسبة للقسمين ولا خلاص من ذلك المصير إلا أن يتعاونا علي إقامة مجتمع جديد يقوم علي أسس أخري غير التي كانت, لأنه لا بديل لمثل هذا المجتمع الجديد إلا كارثة تكرث أهل الأرض جميعا. وقد بدأت ملامح هذه الكارثة وأحاقت بثلثي البشر.. جوع وعري وأمية وموت مبكر وإسكان غير آدمي. وتصحيح هذا الوضع البائس لهؤلاء الملايين يستحيل أن يتحقق والعالم المتقدم في صمم وعمي, لأن هذا المتقدم جزء من علة الكارثة.
أما الأسس الأولية التي اقترح الباحثون أن يقوم عليها المجتمع الجديد فهي:
أولا: المساواة علي المستوي القومي ومساواة علي مستوي العالم بأسره, فلكل إنسان علي وجه الأرض ـ من حيث هو إنسان وكفي ـ حق نابع من فطرته البشرية نفسها في أن يشبع حاجاته الطبيعية الأساسية من غذاء وإسكان ورعاية صحية وتعليم.. إلخ.
ثانيا: المجتمع الجديد ليس مجتمعا استهلاكيا, بل هو مجتمع إنتاج: والإنتاج فيه تحدده الحاجات الطبيعية الضرورية لكل إنسان.
ثالثا إقامة المجتمع الجديد لا تعتمد علي جهود البلاد المتخلفة الفقيرة وحدها, لأن ذلك لا يجدي ما لم تتدخل البلاد المتقدمة الغنية معها في عملية التغيير, تغيير نفسها أولا, وتغيير الآخرين ثانيا.
* هذه الاقتراحات لحل مشكلة الجوع منذ حوالي نصف قرن لم تجد ولم نسمع أي نتيحة إيجابية عالمية في هذا المجال, بل مايزال الفقراء يزدادون ويعانون ويمرضون ويجوعون ويموتون, في الوقت الذي يزداد فيه عدد الأثرياء أيضا, لكن بنسب قليلة بالنسبة للفقراء, وهم يموتون من التخمة والسفه والمبالغة في التمتع بكل متع الحياة!
عزيزي القارئ هل لك أن تساهم في مساعدة الفقراء والجوعي وتعطيهم بعضا من طعامك, أو الفائض منه؟ وأنت تعرفهم سواء في بيتك أو عملك أو جيرانك.. إنها الخطوة الأولي لمحاولة حل مشكلة الجوع..