كل المنافي خاوية, نائية, صامتة, إلا ذلك المنفي الذي يسكننا بالأوجاع صاخبا, كل المنافي قاسية, موحشة, بائسة يائسة, إلا ذلك المنفي الذي يسكننا بالأوجاع جانيا, واعيا, راجيا, في ليل ممزق بين عتمة النفس وضياء الآخر, هنا يحيا صغار بالألم, وحدهم في المنفي الداخلي, بينما يسكن آباؤهم وأمهاتهم في منفي أشد قسوة, معذبين بعذابات صغارهم, الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد, ذلك الاضطراب الذي بلغت إصابات الأطفال به في مصر في العام2017, طبقا لتصريحات دكتورة غادة والي, وزيرة التضامن الاجتماعي آنذاك, إلي800 ألف مصاب, إذ يوجد طفل مصاب بين كل 160طفلا بدرجات مختلفة من الأعراض.
ضمن مئات الآلاف من المصابين, اختار اللجوء إلينا ذلك الرجل الأربعيني, الممتلئ بالعزيمة تجاه شفاء أبنائه, ثلاثة توائم, اكتشف بعد عامين من ولادتهم, أنهم مصابون باضطراب طيف التوحد, لتتحول النعمة المنتظرة لخبر ألم تعتصره, جاء يروي كيف قضي السنوات الست الماضية هو وزوجته, حتي بلغ الأبناء سن الثامنة, تحول المنزل إلي معسكر شديد الخصوصية ليحميهم, من ذواتهم ومن بعضهم البعض, اصفرت كل الضواحي الخضراء في نفسه, واقتلعت رياح التجربة جذور الراحة والسكينة في روحه, هزمته الليالي التائهة, في دوامة الحيرة والوجع صار غارقا, ملتاعا لاهثا خلف أي أمل في تخفيف المرض عنهم, لأن مريض التوحد لا يشفي لكنه يتعايش بنظام حياة معين.
أنفاس مبعثرة, وجه غطته حمرة الخجل, جاء يفتش عن سند, فهو رجل مستور, وله وظيفة محترمة, لكن من يمكنه الوقوف أمام الغريزة الأبوية, من يمكنه دفنها في ضيق ذات اليد, الذي يهددنا طالما كان المرض يتطلب ثراء في ظل تدني رواتب معظم المواطنين مقارنة بغلاء الأسعار, من منا يمكنه الوفاء بعلاج خاص مستورد, لأنه يعلم جيدا وبإقرار الأطباء أن علاج التأمين الصحي غير فعال, والأطباء خارج التأمين يسمونه تراب الدواء, من يمكنه محو الوشم الإلهي في قلوب ذابت حبا لبنيها ليقف مطالبا إياهم بالتخلي عن رجائهم في الشفاء والسعي خلف تحسين حالة الأبناء عبر أي دواء مهما كانت تكلفته؟الإجابة: لا أحد.
يقول الرجل:تحولت حياتي لجحيم, فالأطفال المصابون بطيف التوحد يعانون صعوبة في تنظيم عواطفهم,ينتج عن هذه العواطف غير المنظمة سلوكيات كالبكاء أو الهيجان بعنف,سلوكيات عدوانية ومؤذية جسديا, الارتطام بالأشياء, ضرب الرأس, وشد الشعر, وإيذاء الجسد, ذات مرة فتح أحدهم باب الشقة وخرج, كانت والدته في الحمام, خرجت لتجد الثلاثة صاروا اثنين,انطلقت تبحث عنه, ممسكة بأخويه, عند مفرق الحي وصلت إليها, كالمجنون طفت الشوارع بحثا عن ولدي, الذي تكبدت العناء في سبيل حمايته, فهل أفقده؟ واحدا مثل اثنين مثل عشرة, كلهم غلاوة واحدة, لايمكنني التفريط في أحدهم, فوق أقرب رصيف جلست باكيا, أنادي عليه, عله يسمع تأوهاتي الراجية, وإذا به في بؤرة نظري يقف إلي جانب أحد محال بيع الفاكهة يأكل منها, بلا وعي بما سببه لنا من رعب الفقد والشرود بلاعودة. هرعت إليه,احتضنته, كطفل في مثل عمره بكيت,ثم عدنا إلي منفانا حيث دنيانا الخاصة بعيدا عن المخاطر.
هذا نموذج مصغر من أيامي في منفي التوحد.لم أعد أفعل شيئا في حياتي سوي رعايتهم.إجازات متكررة من عملي لمساعدة والدتهم في الرعاية, حتي يومنا هذا أحدهم يعتمد علي الحفاضات بشكل دائم, والآخر مولود بعين واحدة, تتطلب زراعة عدسة خارجية كل عام لحين استقرار نموه, الأطفال يحتاجون جلسات تخاطب, وحماية مكثفة, ورعاية شديدة لأنهم قد يؤذون أنفسهم في أية لحظة, هذا بخلاف حساسية الطعام.
أحيانا أقف أمامهم لا أستطيع التمييز بين غضبي وحنوي, بين حيرتي وعزيمتي,بين قدرتي وطاقتي الإنسانية والمادية المحدودة, وبين رغبتي في كسر كل الأغلال, والوصول لحل يضمن لهم العلاج والطعام الصحي بشكل دائم, لم يعد لي مصدر التجئ إليه سوي الله, القادر علي معونتي فيما حملني به من تجربة, لم أختر أبنائي, ولم أختر التجربة بل وضعت فيها بإرادة إلهية,وكلي يقين أن من وضعني فيها يستطيع منحي المنفذ والقوة لاحتمالها, والعكاز الذي يدعمني واقفا إلي النهاية بلا انحناء ولا تقصير.حتي إنني أبحث عن من يساعد في تحمل نفقة طعامهم لأنهم مصابون بحساسية للطعام. تصاحب الإصابة بالطيف التوحدي,معظم أنواع الطعام العادي تسبب لهم هياجا شديدا, معظم الأطعمة علي قائمة الممنوعات. نضطر لشراء الأرز والخبز, والمكرونة, وكل ما يتعلق بالنشويات والكربوهيدرات من فئات خاصة تعادل عشرة أضعاف سعر الطعام العادي,كل ما يحتوي علي مادة الجلوتين, الموجودة في منتجات الألبان, لايمكن حرمانهم من عناصر غذائية أساسية في نموهم, فماذا أفعل, إذا كان العلاج المستورد لايمكن توفيره لأن تكلفته بالشحن حوالي400 دولار كل شهر فتوقفت عن طلبه, فهل أتوقف أيضا عن إطعامهم؟
تركت كل شيء, استدنت من الأهل والأصدقاء, تلقيت الدعم والمساندة فترات طويلة من عائلتي, لكن ما باليد حيلة, ليس في الإمكان أبدع مما كان, الكل فعل ما بوسعه فعله, ولايزال فم المرض فاغرا علي مصراعيه, والتأمين الصحي لا يتحمل سوي صرف العلاج المحلي غير الفعال, وبالرغم من قناعة الأطباء في التأمين بأهمية المكملات الغذائية الواردة من الخارج, إلا أنهم أقروا بعدم إمكانية توفيرها.
استمعت إلي الوالد الحزين, بكل جوارحي, عاجزة عن أي وعد بالتحرك تجاه أزمته, وجدتني أقول له, ماذا أكتب لمن يقرأ قصصنا؟ هل أكتب عن العلاج الذي يتكلف 400دولار شهريا وتوقفت عن جلبه بعدما أنفقت كل ما تملك, أم أكتب عن تكلفة طعامهم؟أم عن حياتك المهددة بالانهيار بسبب انقطاعك عن عملك؟ أم عن العيش الضيق الذي تحياه لتوفر لهم المتاح من الطعام؟عن أيهم أكتب؟ وهل يصدقني الناس حينما أسرد كل هذا؟لم أعرف بماذا أجيبه؟ تركني هائما علي وجهه يبحث عن ملاذ آخر ربما يجد.
لكن حينما شرعت في الكتابة وجدتني أكتب عن كل الأشياء التي نفذت إلي مشاعري, عبر مواجعه, فالكتابة في هذه المساحة لايحركها مجد شخصي, وإنما تحركها يد الله, من أجل الحقوق المهدرة, والرجاء المفقود, من أجل غرس حبات الأمل في نفوس اليائسين, ومنح فرصة للراغبين أن يصيروا عكازا في يد الله للمحتاجين أن يفعلوا.
إن مرض اضطراب طيف التوحد الذي يصاب به الأطفال, ليس مجرد شعور بالعزلة لكنه مزيج من أغراض اضطراب في الدماغ وفي النمو, وله مستويات من الشدة تختلف من طفل لآخر فلا يحكم أحدكم علي أحد قبل أن يعرف أنه-طبقا لتعريف وشرح مؤسسة مايو كلينك بولاية مينيسوتا, وهي منظمة غير ربحية ملتزمة بالممارسات السريرية والتعليم والبحوث, وتوفير الرعاية الطبية- فإن الطفل أو الشخص البالغ المصاب باضطراب طيف التوحد, قد يعاني من مشاكل في التفاعل الاجتماعي ومهارات التواصل, عبارة عن حالة ترتبط بنمو الدماغ وتؤثر علي كيفية تمييز الشخص للآخرين والتعامل معهم ,مما يتسبب في حدوث مشكلات في التفاعل والتواصل الاجتماعي, ويتضمن الاضطراب أنماطا محدودة ومتكررة من السلوك.بعضهم أنطوائيون أو عدوانون أو يفقدون المهارات اللغوية التي قد اكتسبوها بالفعل مع اضطرابات معدية ومعوية شديدة بسبب تأثير بعض المواد في الطعام وعادة ماتظهر العلامات عند عمر عامين.
اللافت للنظر في الأمر أن التأمين الصحي لا يوفر تعاقدات استيرادية للمكملات الغذائية المستوردة اللازمة للسيطرة علي أعراض الطيف التوحدي لدي الأطفال,والتي من شأنها منح استقرار عائلي لآلاف الأسر في مصر, اقترحت علي والد الثلاثة توائم أن نذهب للتأمين الصحي في محاولة, ثم بدأت رحلة البحث عن بروتوكولات التوحد لأجد خبرا منشورا منذ عام عن الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري العام الماضي لصالح الطفلة ياسمين, عمرها3سنوات, بعد امتناع التأمين الصحي عن صرف الدواء لها, قالت المحكمة في حكمها أنالتأخير في منح الطفلة جرعات العلاج الدوائي وتشكيل فريق طبي في النمو والنفسي والتخاطب يعرض حياتها للخطر ويحرمها من حقها في العلاج المجاني, وهو حق دستوري ويتوجب علي هيئة التأمين الصحي بذل العناية اللازمة لتخفيف معاناة الأطفال المرضي الذين يطرقون باب العدالة الذي لا يوصد في وجهه يا للعجب,القانون ولد له قلب وأصحاب الرداء الأبيض ومن يعاوونهم إداريا يمتنعون عن طرف العلاج لطفلة عمرها ثلاث سنوات.
بعد قراءة نص الحكم قررت ألا فائدة في طرق باب مغلق أصلا ولا أعلم لماذا لا توقع مصر اتفاقا مع الدول لاستيراد هذه الأدوية إذا كان لدينا مايقرب من مليون طفل مصاب بالتوحد؟ كيف نترك أولئك الأطفال لمصير العزلة والابتعاد عن المجتمع وإيذاء النفس؟وتدمير السلام النفسي لأسرهم,هل هذا ما يبني مجتمعا منتجا؟ إذا كنا نبحث عن التنمية المجتمعية,علينا أن نستثمر في البشر, مليون أسرة تحت نير المعاناة, فهل تستمع إليهم رئاسة الجمهورية وصندوق تحيا مصر ويعتبرونهم مشروعا مستقلا مثل مشروع علاج فيروس سي, إنهم جسور المستقبل فلا تقطعوها, إذ لهم حق الوصول إليه دون التخلف عن أندادهم الأصحاء.