يعد الأمان قيمة كبرى في حياة البشر، هذا أمر لا خلاف عليه مهما اختلفت المنظومات الثقافية والاجتماعية والدينية. وألأمان من “الأمن” والذي يعنى كما يعرفه الجرجاني في كتاب التعريفات :”عدم توقع مكروه في الزمن الآتى”. وهذا التعريف له دلالته النفسية والاجتماعى فالمسألة لا تتعلق فقط بالخوف من مخاطر فعلية، ولكن التحرر من الإحساس بالتهديد من خطر محتمل أو خفى، وهو ما يعنى الطمأنينة والاستقرار. والأمين هو الشخص محل الثقة، وكلمة “المؤمن” قبل أن تدل على الاعتقاد والايمان، فإنها تدل على “الأمن” فالمؤمن من يأمنه الناس فلا يظلم أو يجور أو يُرهِب. وهكذا فإن الأمان، فى معناه العام، يتضمن “الطمأنينة” و”راحة البال” و “الاستقرار”، فالنفوس الآمنة هى النفوسالمطمئنة، والحياة الآمنة هى حياة مستقرة. وإذا كانت الطمأنينة شعور نفسى، فإن الاستقرار حالة اجتماعية تعنى ثبات الحال أو تحسنه وعدم حدوث تغيرات مقلقة، وبالتالي فإن الاستقرار أحد شروط الإحساس بالاطمئنان والأمان. وثمة عوامل متعددة مادية واجتماعية وسياسية وبيولوجية وبيئية ووجودية تشكل مصادر للخوف وعدم الأمان بما تفرضه من مخاطر وتهديدات وضغوط، ويعمل الإنسان عادة على تأمين نفسه من مصادر الخوف المتعددة فينجح ويفشل، ويبقى البحث عن الأمان سنة من سنن الحياة.
ويجدر، في هذا السياق، التمييز بين “الأمن Security” و”الأمان Safety”. يشير الأمن إلى حماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات من التهديدات الخارجية التي من المحتمل أن تسبب ضررًا. فمن الواضح أن الأمن يركز بشكل عام على ضمان أن العوامل الخارجية لا تسبب مشاكل أو وضعًا غير مرغوب فيه للمؤسسة والأفراد والممتلكات. أما مصطلح الأمان فيعنى ضمنيا السلامة والطمأنينة، لأنه إحساس بالحماية من العوامل التي تسبب الضرر. والأمن أكثر ارتباطا بالجانب المادى، كأن تكون هناك تحصينات أو أدوات حماية إلخ، أما الأمان فهو أكثر ارتباطا بالمشاعر، فيكفى أن تكون في صحبة أناس تثق فيهم لتشعر بالأمان، كالطفل فى صحبة أمه أو أبوه. وبالتالي فإن فالأمن إجراءات وتدابير أما الأمان فهو إحساس وحالة نفسية واجتماعية.
ولأن الأمان مسألة حيوية وحاسمة في حماية الإنسان، فقد كان الحديث عنه فى صميم الثقافة الشعبية التي نجد فيها تعبيرات متعددة للوعد بالأمان والطمأنينة للذات والآخرين. فنجد أن نصوصا دينية تتحول إلى مقولات شعبية عند مداخل المدن والبيوت: “إدخلوها بسلام آمنين”. وبشكل عام فإن الكثير من المقولات والأمثال الشعبية التي تعلى من قيمة الإحساس بالأمان تنبع، على ما يبدو، منمنظورين أساسيين: أولا: منظور التقية – أى اتقاء الشرور ومصادر الخوف – من خلال الابتعاد عنها أو التحايل من أجل إبطال مفعولها، وثانيا: منظور التعايش، أي حث البشر على تأسيس بيئة آمنة من خلال إشاعة قيم المحبة والرحمة والتسامح.
والأمثال التي تنصح باتباع استراتيجية وقائية بالابتعاد عن مصادر الخطر والشر متعددة، باعتبار الابتعاد هو الوسيلة الناجعة فى الوعى الشعبى: “ابعد عن الشر وغنى له”، “امشى سنة ولا تخطى قنا [قناة]”، “الباب اللى يجيلك منه الريح .. سده واستريح”، “الحجر الداير، لابد من لطه”. وهناك كذلك أمثال تحزيرية تختص بعلامات الخطر والتى هي حد ذاتها خطر وذات تأثير: “الدخان القريب يعمى”، “والعيار اللي ما يصيبش يدوش”. ومن الأمثلة الدالة على التحايل على مصدر الشر لإبطال مفعوله: “إقطع لسان عدوك بسلام عليكم”، والسلام في هذه الحالة ليس وسيلة للتعارف أو بناء صداقة، ولكنه مجرد إجراء وقائى لتفادى الشر. وأكثر من ذلك، فالأمثال تدعو أيضا إلى التغاضى والتنازل حتى يمر الخطر: “فوت كلمة.. تفوتك ألف”، أى أن هناك كلمة تجر معها الف كلمة ولذلك من الأفضل التغاضى عنها، أما التنازل فنجده فى صياغات مثل “طاطى لما تفوت” أى اخفض الرأس لتمر بسلام. وهنا نلاحظ أن بعض الأمثال تضع سلامة الإنسان وأمنه في مرتبة تعلو كرامته: “الجرى نص الجدعنة”.
ومن ناحية أخرى، فإن الثقافة الشعبية لا تربط الأمان بالتقية والابتعاد فقط، بل هناك لغة أخرى تدعو للأمان بنشر المحبة والتسامح والعفو، بمعنى خلق بيئة خالية من الخوف والإخافة، من ذلك “أهل السماح ملاح”، و”المسامح كريم”و “يا بخت من قدر وعفى”. وكما هو معروف فإن الأمثال الشعبية تتضمن الشئ ونقيضه، وهوما ينطبق أيضا على على “الأمان” و”الخوف” فنجد صياغات واضحة في هذا الصدد مثل “من خاف سلم”، والخوف هنا ليس إلا وسيلة لتحقيق السلامة والأمان، والمقابل تشجيع على الإقدام وعدم الخوف: “اللى يخاف من العفريت يطلع له”، و”اللى تخاف منه ما يجيش احسن منه”. وكما تدعو الثقافة الشعبية للحذر وحساب العواقب، إلا أننا نجد لغة أخرى تحث على الإقدام والتغلب على الخوف بالرضا والاقتناع بالقدر والقسمة والنصيب: “إدينى عمر وإرمينى في البحر”، و”الحذر ما يمنع قدر”.
وبالطبع فإن النصائح التى توفرها الثقافة الشعبية تستخدم حسب السياق، ولكنها فى المجمل تعلى من شأن السلامة والأمان. وعملياقد تتباين السبل التي نتبعها لحماية أنفسنا، وقد نبحث عن الأمان وفى نفس الوقت نمارس أفعال تنتهك حق الآخرين في الأمان. ولكن تظل هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها وهى أن الأمان قيمة عليا ولها خصوصيتها، فالأمان ليس صفة شخصية كالكرم، ولا قدرة كالشجاعة والصبر، ولا مجرد إحساس كالحب، بل إنه القيمة التى بدونها تفسد كل القيم. ومع الأسف فإن ما نشهده ونسميه تقدم وتحضر أصبح في حد ذاته مصدرا لعدم الأمان، فدوائر الخوف تتسع مع تزايد المخاطر والتهديدات والضغوط النفسية والاجتماعية والسياسية. وفى حين نتصور أن حل المشكلة بفرض المزيد من إجراءات وتدابير الأمن Security، ولكن الأمان Safety، هو الأصل والهدف، والأمن إذا لم يحقق الأمان، يصبح هو ذاته مصدرا للخطر والتهديد.