** أصعب ما في رحلاتنا ليس أننا نسمع صراخ المتألمين, لكن أننا نذهب معهم إلي أعماق حياتهم فنلمس قسوة الأيام عندما تغدر بالإنسان.. كثيرون نصطحبهم علي طريق الشفاء, ويتمجد الرب معهم, ويعودون إلي الحياة شاكرين تحنن الرب, وكل يد امتدت حتي سكنت آلامهم وانتهت أوجاعهم..
لكن البعض لا تسكت آلامهم ولا تنتهي أوجاعهم, بل الأكثر عندما يبدو لنا أننا اقتربنا من الشفاء وأن الآلام تسكت والأوجاع ستنتهي, نفاجأ بما هو أشد قسوة وعذابا..
وهذا ما حدث مع الصديقة مريم التي بدأت حديثي معكم عنها الأسبوع الماضي بعد 11 عاما ونحن معها في أطول وأقسي رحلة آلام.
** صديقتنا التي تعرفنا عليها في فبراير 2010 مما روته لنا شقيقتها لأنه كان يصعب عليها الحركة والحضور إلينا, إذ كانت تعاني وقتها من ضمور في المخ منذ عدة سنوات, وكما عرفنا من التقاريرالطبية التي حملتها شقيقتها أنها تعاني من نوبات تشنج كبري, وأن أشعات الرنين والمقطعية أظهرت وجود جلطات بالمخ وضمور بالخلايا بعد إصابتها بالسكتة الدماغية, وتخضع لعلاج دوائي مستمر حتي لا تتدهور الحالة.
** خلال حديثنا مع الأخت تكشف لنا ماهو أقسي من المرض.. صديقتنا المريضة هي أكبر شقيقاتها, وأختها التي جاءت لنا تحمل مأساتها هي أصغرهن, فهن خمس بنات متربين في طاعة الرب.
ولأن صديقتنا كانت أكبرهن فقد شجعوها بكل ما يملكن, وكانت عند موضع أمانيهم يسبقها طموحها, فلما حصلت علي الثانوية العامة ساقها مجموعها إلي معهد الكفاية الإنتاجية بمدينة الزقازيق فلم تتردد, وتحملت أشق ما يمكن أن تتحمله فتاة حتي انتهت دراستها بنجاح وتفوق أسعد والديها.
ولم يتوقف طموحها عند هذا, فالتحقت بكلية الهندسة في دراسة تكميلية لمدة عامين لتحصل علي بكالوريوس الهندسة من جامعة القاهرة, وهو الحلم الذي سعت كثيرا لتحقيقه.
لكن القدر كان لها بالمرصاد.. وهي في السنة الثانية والأخيرة من دراستها ففاجأتها غيبوبة, وهرع بها الأب إلي أقرب مستشفي, وجاءت نتيجة الأشعة المقطعية سكتة دماغية.. وكانت صدمة كبيرة, فلم يكن الأمر سهلا, عيناها استقرتا لا تتحركان, نوبات تشنج متلاحقة, ومن يومها وهي لم تغادر البيت حتي لا يفاجئها تشنج في الطريق, وتوقفت دراستها حلم حياتها وأمل أسرتها.
** وعلي امتداد خمس سنوات وأكثر من يوم إصابتها والأب يطوف بها علي أكبر الأطباء, ولما استنفد كل ما يملك أخذ يطوف بها علي المستشفيات الجامعية والحكومية, والمرض اللعين يلازمها بلا أمل في شفائها, والأمر لا يتعدي استقرار الوضع وتخفيض الآلام.
ومع قسوة الحالة ماتت الأم, وأقعدت الشيخوخة الأب.
ومن يومها ـ فبراير 2010 ـ ونحن معها, كل ما يمكن عمله فعلناه ونحن نعرف صعوبة الحالة وقسوتها.
واستقر الأمر علي مداومة العلاج المستمر الذي قرره لها واحد من أكبر وأشهر أساتذة المخ والأعصاب.
وطوال هذه السنوات ـ 11 عاما ـ ونحن نقدم لها الأدوية المقررة, والتي تقترب قيمتها الآن من ألف جنيه شهريا, وهي كلها أدوية مضادة للتشنجات ووقف النوبات, وعلاج أعراض الضعف الإدراكي, وتغيير كمية المواد الكيميائية التي تتحكم في الدماغ.. كلها أدوية لعلاج أعراض ومضاعفات المرض لاستقرار الحالة لا أكثر.
المؤلم أن الأمر لم يقف عند هذا الحد… المأساة الأكثر صعوبة حملتها الأيام التالية.. أكتفي عند هذا وأطلب صلواتكم فما هو قادم يفوق الاحتمال.. صلوا.. صلوا.. صلوا من أجل مريم.