” حانَ الوقتُ واقترب ملكوتُ الله . فتوبوا وآمنوا بالبشارة ” ( مرقس ١ : ١٥ )
هكذا بدأ الربّ يسوع المسيح بشارته : ” تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات ” (متّى ٤ : ١٧) . والقديس يوحنّا المعمدان ، السابق ، بالطريقة نفسها كان يُعلِنُ فيقول : ” تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات ” (متّى ٣ : ٢) . والآن ، يؤنّب الربّ هذا الجيل لأنّهم لا يريدون أن يتوبوا ، وملكوت السموات قد اقترب ، هذا الملكوت الذي قال عنه يسوع بنفسه إنّه ” لا يأتي على وَجهٍ يُراقَب . ولن يُقال هاهوذا هُنَا ، أو هَاهوذا هُناك . فها إنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم ” (لوقا ١٧ : ٢٠ – ٢١).
فليكن لكلّ مِنّا الفطنة لتقبّل تحذيرات الربّ ، حتّى لا ندع زمن رحمته يفوتنا، هذا الوقت الذي يمرّ الآن بسرعة ، حيث ما زال يعفي عن الجنس البشري . وإن أُعفِي عن الإنسان ، فلكي يتوب وكي لا يُدان أحد . ذلك أنّ لله معرفة زمن نهاية العالم ودينونته : مهما يكن الأمر، فالآن هو زمن الإيمان .
” ٱتبَعاني أَجعَلُكُما صَيّادَي بَشَر ” ( مرقس ١ : ١٧ )
سِمعانَ واندراوس جاءا إلى يسوع كصيّادَي سمك ، وصارا صيّادَي بشر، كما قيل : ” هاءَنَذا مُرسِلٌ صَيَّادينَ كَثيرين، يَقولُ الرَّبّ، فيَصْطادونَهم، وبَعدَ ذلك أُرسِلُ قنَاصينَ كَثيرين، فيَقنِصوَنهم عن كُلِّ جَبَلٍ وعن كُلِّ تَلٍّ ومِن شُقوقِ الصَّخْر ” (إرميا ١٦ : ١٦) . فَلَو أَرسَل حكماء وعظماء، لقيل إنّهم أقنَعوا الشعب وبالتالي ربحوه ، أو خدعوه وبالتالي سيطروا واستَولوا عليه . ولو أرسل أغنياء، لقيل أنّهم خدعوا الناس بتغذيتهم ، أو أفسدوهم بالمال وبالتالي حَكَموه . ولو أرسل رجالاً أقوياء ، لقيل إنّهم قد أغروهم بالقوّة أو أَجبَروهم بالعنف .
لكنّ الرُّسل لم يكن لهم شيئاً من هذا. وقد أَظهَر الربّ هذا الأمر للجميع من خلال مثل سمعان بطرس . كان يفتقر إلى الشجاعة ، إذ كان خائفًا عند سماعه صوت جارية . كان فقيرًا، لأنّه لم يتمكّن حتّى من دفع حصّته من الضريبة ، عندئذٍ قال له يسوع : ” فاذهب إلى البحرِ وأَلقِ الشِّصَّ ، وأَمسِكْ أَوَّلَ سمَكةٍ تَخرُجُ وافْتَحْ فاها تَجِدْ فيهِ إستاراً ، فَخُذهْ وأَدِّهِ لهم عنِّي وٓعنكَ “. ( متى ١٧ : ٢٧ ) . وهو بنفسه قال : ” لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب ” (أعمال الرُسُل ٣ : ٦) . ولم يكن لديه معرفة وثقافة ، لأنّه عندما أنكر الربّ ، لم يعرف كيفيّة التملّص والهروب بِحيلة .
لقد ذهب صيّادو السمك هؤلاء وانتصروا على الأقوياء والأغنياء والحكماء . إنّها لَمعجزة كبيرة : كونهم ضعفاء ، اجتذبوا الأقوياء لعقيدتهم من دون عنف . علَّموا الأغنياء وهم فقراء . جعلوا الحكماء والعلماء تلاميذهم وهم جُهّال . لقد أفسحت حكمة العالم مكانها لهذه الحكمة التي هي في حدّ ذاتها حكمة كلّ حِكمة .
” فَتَركا الشِّباكَ لوقتِهما وتَبِعاه ” ( مرقس ١ : ١٨ )
قد يتسأل البعض : “ماذا تركا من أشياء ثمينة تلبية لنداء الربّ ، هذان الصيّادان اللذان لا يملكان شيئًا تقريبًا ؟ ” لقد تركا الكثير ، لأنّهما تخلّيا عن كلّ شيء ، عن كل ما يملكانه ، مهما يكن هذا الشيء قليلاً . أمّا نحن ، فعلى العكس ، نتعلّق بكلّ ما لدينا ، ونبحث بطمع عمّا ليس لدينا .
ترك بطرس وأندراوس الكثير عندما تخلّيا معًا عن أبسط رغبة في الامتلاك . لقد تركا الكثير، عندما تخلّيا عن ممتلكاتهما ، تخلّيا كذلك عن كل رغباتهما الشخصية ليتبعا يسوع .
فلا يقل أحد في نفسه ، حتّى عندما يرى أن البعض تَرَكُوا ثروات كبيرة : ” أودّ لو أمتثل بهم في احتقارهم لهذا العالم لخدمة الكلمة والفقراء والأيتام والمرضى وغيرهم ….، لكن ليس لديّ شيء أتخلّى عنه ، فأنا لا أملك شيئًا ” .
إخوتي الأحباء ، أنتم تتركون الكثير، عندما تتخلّون عن رغبات وغنى هذا العالم ومغراياته . كونوا على ثقة بأنّ الربّ يكتفي بممتلكاتنا الخارجيّة مهما كانت صغيرة حتى ولو كانت حقيرة وغير نافعة ، ولا قيمة لها ، وتأكدوا جيداً بأن الرب لا يهتمّ إلاّ بالقلب ولا بثمن الأشياء ، يهتمّ بالباطن ولا بالظاهر . لا يرى كم قدّمنا له ، إنّما كم من المحبّة رافقت تقدمتنا وعطاءنا .
إذا أردنا أن نهتمّ فقط بالممتلكات الخارجيّة ، فإنّ قدّيسانا التاجران دفعا بشباكهما وبمركبهما ثمن الحياة الأبديّة ، حياة الملائكة والقدّيسين . ملكوت الله الذي ليس له ثمن ، ولكنّه لا يكلّفك أكثر أو أقل ممّا تمتلك .