اليوم الأول من شهر العذراء، يا إخوتي الأحباء .. نبدأ صومنا الإستعدادي لعيد إنتقال العذراء مريـم بالنفس والجسد إلى السماء بتكريس العالم لقلب مريم الطّاهر ، طالبين منها أن تضع السلام في بلادنا وفِي العالم ، وترفع عنا الحروب والأمراض بأنواعها وخاصةً وباء كورونا ، وتضع في قلوبِنا المحبّة والوئام والتفاهم لكي نقبل ونخدم بعضنا على مثال إبنها يسوع .
تكريس العالم لقلب مريـم العذراء الطاهر تمَّ للمرّة الأولى، من البابا بيوس الثاني عشر ( المعروف بابا فاطيما )، وفعل التكريس هذا يتكلّم بشكلٍ واضحٍ وكامل عن انتصار العذراء وملك المسيح في العالم كلّه .
في ٢ ديسمبر ١٩٤٠ توجّهت الأخت لوسيا دي فاطيما إلى الأب الاقدس بيوس الثاني عشر برسالةٍ تؤكّد فيها:
” إنّ مخلّصنا يسوع المسيح يُصِرُّ، في عدّة ظهوراتٍ خاصّةٍ، على تكريس العالم لقلب مريم الطّاهر، واعِداً بإنَّه إذا تنازل قداستكم وكرّس العالم، مع ذكرٍ خاصٍ لروسيّا، وأَمَرْتُم أنْ يَمتَثِلَ جميع أساقفة العالم، سيُقَصِّرُ أيَّام المعاكسات الّتي يُعاقِب بها الأُمم من أجلِ خطاياهم ومعاصيهم، عن طريق الحرب والجوع واضطهادات عديدة ضدّ الكنيسة المقدّسة وضدّ قداستكم.
وكانت الأخت لوسيا قد أطلعت أسقف “دي لايريا” ( مدينة فاطيما – البرتغال ) على تحذيرات المخلّص، الذي قال: ” تماماً كمَلِك فرنسا؛ لا ينصعون لطلباتي. سيُكَرّس لي الأب الأقدس روسيا، ولكن متأخّراً ” .
وفي ٢٤ يونيو ١٩٤١ كرّر يسوع هذا الطّلب في ظهوراتٍ للطّوباويّة ” ألسّندرينا ماريا دا كوستا ” البرتغاليّة التي كانت تشاركه آلآمه المقدّسة من أجل تحقيق هذه الغاية: ” يا ابنتي، أُطلُبي من الأب الأقدس أن يضع حدًّاً لآلامكِ واستشهادِكِ، ويتمّم من دون تأخّرٍ طلب يسوع، أي أن يُكَرِّس العالم لقلب أمّي الكلّيّة القداسة.”
كانت الطّوباويّة ألسّاندرينا تعيش آلآم جلجلة المسيح كلّ يوم جمعة وتتحمّلها بصبرٍ.
وفي ٢٢ مايو ١٩٤٢ صرخت وهي بانخطافٍ سماويٍّ: ” المجد، المجد، المجد ليسوع ! الإكرام والمجدُ لمريمَ ! لقد قرّر الأب الأقدس تكريس العالم لقلب مريم الطاهر” وفي ٢٧ مارس ١٩٤٢ توقّفت آلآمها، فعرِفَت أنّ الأب الأقدس سيستجيب لطلب المخلّص. كما صرخت في ٢٩ مايو أيضاً : “من لا يُريد أن يكون خاصّة أمّ الله؟ ويكرّس نفسه لسيّدة الانتصار؟ سيتَكرَّس العالم لقلبها الطّاهر ! ”
وفي ٣١ اكتوبر ١٩٤٢، عند انتهاء اليوبيل الفضّي لظهورات فاطيما، أذاع البابا بيوس الثاني عشر فعل التكريس عبر الراديو .
هذا هو نصّه الكامل الذي اعتبرَه أهمّ اللّاهوتيّين في الكنيسة : ” أعظمُ شَرفٍ يمكن لأيّ شخصٍ أن يتخيَّله. وأسمى ظاهرةٍ من ظواهِر العِبادة المريميّة ” :
” يا سلطانة الورديّة المقدّسة، ومعونة النّصارى، ويا ملجأ الجنس البشريّ، المنتصرة في جميع معارك الله ضدّ أعدائه، نجثو بكلّ خشوعٍ تحت عرشِكِ، ونحن واثقون من الحصول على الرّحمة وكافّة النّعم والمعونة اللّازمة في صعوباتنا الحاضرة ، إنّما ليس باستحقاقنا، بل بواسطة رحمتِك الواسِعة ، رحمة قلبكِ الأموميّ. في هذه الأيّام المريرة الّتي تمرّ بها الانسانيّة، نتقدّم بكلّ ثقةٍ من قلبكِ الطاهر، ونكرّس ذواتنا له مع الكنيسة المقدّسة بأجمعها، مع الجسم السرّيّ ليسوع الرّحوم أعني به الكنيسة المقدسة ، الذي يتعذّب ويدمي ويُهان بطرقٍ شتّى. ونقدّم ذلك بالاتّحاد مع العالم بأسره الذي مُنيَ بالصّراعات الفتّاكة، والمُشتَعِل بحرائق الحقد، والذي أصبح ضحيّةَ شرّ الحقد .
أنظري بشفقةٍ إلى كلّ الدّمار الماديّ والمعنويّ، وإلى معاناة عائلاتنا وأطفالنا الأبرياء ومخاوفهم .
أنظري إلى العديد من النّفوس التي تُقتَل في زهرة شبابها، والعديد من الأجساد التي تُقطَع وتُذبَح بشراسةٍ، وإلى الكثير من النّفوس المعذّبة والمضطربة، وفي خطر الهلاك الأبديّ.
يا أمّ الرّحمةِ، نالي لنا السّلام من الله، وقبل كلّ شيءٍ النّعم التي تحظى بإرتداد قلوب البَشر، كما النّعم الّتي تُهَيّئُ وتؤسّس وتؤمّن السّلام. يا سلطانة السّلام صلّي لأجلنا، واعطي العالم السّلام في الحروب، الذي نتوق إليه جميعنا، السّلام في حقّ والعدل وفي محبّة المسيح. أعطِه سلام السّلاح وسلام الضّمير، لكي ينتشر ملكوت اللّه في الأمان والنّظام. تنازلي واشملي بحمايتكِ غير المؤمنين، والذي يَهيمون في ظلال الموت. مُنّي عليهم بالسّلام واسمَحي بأن تنيرهم شمس الحقيقة، لكيما يُردّدوا معنا أمام مخلّص العالم الوحيد: ” المجد للّه في أعالي السّموات، وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المَسرَّة ” (لوقا ٢ : ١٤)
أعطي السّلام للَذين تشتّتوا بسبب الضّلال والانشقاقات، وبخاصّةٍ إلى الّذين يحملون لكِ تعبّدًا خاصًّا، والّذين لا منزل لهم تُعرَضُ وتُكَرَّم فيها أيقوناتكِ المُقدّسة، أعيدي جميع الشّعوب إلى حظيرة المسيح الوحيدة، تحت راعٍ واحدٍ حقيقيٍّ .
إعطي كنيسة الله المقدّسة سلامًا وحرّيةً كامِلَين. أوقِفي فضيان الطّوفان الوثنيّ، وزيدي لدى المؤمنين حُبّ الطّهارة وممارسة الحياة المسيحيّة والغيرة الرسوليّة، لكي ينمو شعب الله عدداً واستحقاقاً . وكما كُرِّس العالم والكنيسة لقلب يسوع الأقدس سابقاً، ها نحن نضع كلّ آمالنا به، وفي كلّ الأزمنة، فهو علامة الاإتصار والخلاص .
يا أمّنا وسلطانة العالم، نكرّس الكنيسة والجنس البشري، لكِ ولقلبكِ الطّاهر إلى الأبد، لكي يُسَرِّع حُبّك وشفاعتكِ بانتصار ملكوت الله، والأمم المُصالحة مع بعضها البعض ومع الله، تطوّبكِ وتنشد معكِ من قطب الأرض إلى آخر، النشيد الأزليّ للمجد والحبّ والإخلاص لقلب يسوع الذي وحده هو نبع الحقّ والحياة والسّلام.”
من كتاب : ” رسائل العذراء مريم ، عندما تخاطب السّماء الأرض “.