تعنى كلمة “الخصوصية” التميز والتفرد والتحديد، وقد اكتسب مفهوم الخصوصية الكثير من دلالاته فى العصر الحديث، من خلال معنيين أساسيين يجرى التعبير عنها بكلمتين فى اللغة الإنجليزية هما: كلمة Privacy والتى تعنى “حالة التحرر من المراقبة أوالملاحظة أوالإزعاج من قبل آخرين؛ أما المعنى الثانى فيفيد التميز Particularity سواء على المستوى الفردى أو الجماعى. وتعنى الخصوصية الخاص مقابل العام، فنحن نميز بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، والملكية الخاصة والملكية العامة والشأن الخاص والشأن العام. وهى ثنائيات من المفترض أن تكون متوازنة وعادلة بموجب القوانين والسياسات. وعادة ما نفهم ثنائية الخاص والعام، من خلال ثنائية الفردى والجماعى، وهى مفاهيم شهدت تطورات تاريخية وخاصة فى العصر الحديث، فكلاهما لم يكن يحمل نفس المعنى الذى نقصده فى وقتنا الراهن. فالعام فى السابق كان يعنى “المشاع”، أو “حق الحماعة على الفرد” وفق الأعراف والتقاليد السائدة. والخاص لم يكن يشتمل بالضرورة على الفردية والتفرد، بقدر ما يعنى التميز بشئ ما من ناحية، والملكية والامتلاك من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أن الملكية والامتلاك هى حجر الزواية فى مفهوم “الخاص”، إلا أن هذا لا يعنى أنها فى وئام مع مبدأ وقيمة الخصوصية، فتاريخيا كان للمالك الحق فى التصرف فيما يملكبدرجات ومستويات مختلفة. وهذا الأمر كان يعنى، وربما مازال، حرمان آخرين -أى من يتم امتلاكهم- من الخصوصية. وتعد العبودية، فى شكلها التقليدى والمعاصر المثال الأبرز على ذلك. والمسألة لا تتعلق بالعبودية فقط، فحتى فى إطار العلاقات الأسرية والاجتماعية، ثمة أشكال متعددة من السيطرة والامتلاك بحكم القرابة وأنماط الزواج أو الأعراف الاجتماعية يتم من خلالها سلب الطرف الخاضع أو المملوك الحق فى الخصوصية. وفى هذا الإطار فإن أكثر ما يخضع للتملك والسيطرة هو الجسد، فوضع الأجساد داخل المجال الخاص، لم يكن يعنى تفردها وإنما تملكها فهى الحرم الذى يُحرَم على الآخرين الاقتراب منه، بل ومصادرة حق أصحاب، أو بالأحرى صاحبات، هذه الأجساد فى إمتلاك أجسادهن وتقرير مصيرهن وشئون حياتهن الخاصة.
إن حركات التحرر من العبودية، بأشكالها المختلفة، كانت فى جوهرها ضد الملكية الخاصة ودفاعا عن الخصوصية. ولا يمكن تجاهل أن حركات تحرير المرأة، أعطت دفعة قوية لمفهوم “الخصوصية”، بتحرير أجساد النساء من قيود التملك والامتلاك. إن المجال الخاص المسمى قديما “الحرملك” لم يكن حيزا للخصوصية بل للتملك. ولذلك فإن مفهوم الحيز الخاص الذى يجرى الدفاع عنه الآن، هو حيز مكانى وجسدى، أو ما يسمى الحيز المريح للجسد Body Comfort Zone. ويمكن القول أن تحرير من قبود السيطرة والتحكم والتدخل، بات علامة مميزة لمبدأ الخصوصية.
ومن هنا يمكن أن نفهم مقاومة الذهنيات الذكورية والأبوية لحقوق النساء والحريات الشخصية، لأنها ذهنيات تشكلت وتعايشت واستفادت من فكرة التملك والامتلاك والسيطرة، فخصوصيتهم تعنى حقهم فى التملك، وخصوصية الآخرين تبدو لهم وكأنها عملية نزع ملكية.
وعلى الرغم من أن الخصوصية مشتقة من الخاص، إلا أن توظيفها لتعبر عن شأن عام وذلك عندما تتحول إلى “خصوصية ثقافية”، بمعنى أن لكل أمة أو شعب أو جماعة خصوصيتها التى تميزها عن غيرها، وبموجب هذا فإن لكل جماعة الحق فى التمسك بقيمها ومعاييرها الخاصة. وهكذا تصبح الخصوصية تعبير عن شان ثقافى وقيمى وأخلاقى عام يسمو على الحقوق الفردية والشخصية،. وكما هو معلوم فإن مقاومة الحقوق الشخصية وحقوق النساء، وكلاهما يعنى التحرر من السيطرة والتملك، كانت ومازالت تتم باسم “الخصوصية الثقافية”، أى ذلك النمط من الخصوصية الذى يشكل حاجزا أمام الاعتراف بكونية هذه الحقوق. وهذا ما يجعل مفهوم “الخصوصية الثقافية” أداتى وغير برئ، ليس فقط لأنه يصادر الحقوق الفردية، ولكن بسبب المعايير المزدوجة فى التعامل مع التنوع الثقافى، فأنصار الخصوصية الثقافية عادة ما يمدحون التنوع الثقافى فى خطابهم مع الخارج لتبرير رفضهم للمعايير الدولية، وينكرونه فى خطابهم على مستوى الداخل لتبرير “قدسية وسمو” معاييرهم الأخلاقية والثقافية.
وتبقى الإشارة، إلى أن “الخصوصية” كما نفهمها الآن هى نتاج الحداثة وهو وثيقة الصلة بالفرد ككيان قانونى وحقوقى، ولكن فى الوقت الذى تتواصل فيه مسيرة الدفاع عن الحقوق والحريات الشخصية، نكتشف أن الحداثة هى الأكثر مكرا وإحكاما فى انتزاع الحق فى الخصوصية، سواء من التطور الهائل فى أنظمة التتبع والمراقبة، أو من خلال تحويل البشر إلى كائنات رقمية وأجساد معلوماتية. إن المبدأ الحاكم الآن هو الانكشاف، وهو نمط مختلف من الانكشاف لأنه ليس نوعا من العرى الجسدى، ولكن العرى المعلوماتى. فقد يحظى الفرد بامتياز الخصوصية والتفرد فى محيطه الواقعى، ولكن بمجرد دخوله العالم الافتراضى يتحول إلى كيان معلوماتى مكشوف وكاشف لنفسه، كيان بلا خصوصية.
وأخيرا فرغم النجاحات التى تحققت على مدار العصر الحديث لإقرار الحق فى الخصوصية، وتزايد الوعى بشرعية امتلاك هذا الحق، فمازال هناك من هم أسرى القيود التقليدية الناجمة عنالتملك والسيطرة وسياسات الهوية. ولا يجب أن نلوم الثقافات والذهنيات التقليدية فقط، فالحداثة التى وعدت بجنة الخصوصية، هى ذاتها تخون هذا الوعد وتلقى بالبشر فى دهاليز العالم الافتراضى، عالم قد يخفف من وطأة التحديات التقليدية، ولكن مقابل أن يتحول البشر إلى سجلات رقمية ومعلوماتية مكشوفة وقابلة للتدوال فى أسواق العولمة.