** أحيانا صوت الآهات لا يسمعه إلا صاحبها, ويظل الألم مدفونا لا يشعر به إلا من يحمله, وهذا قمة التضحية وأنبل ما في قلب البعض ـ وهم قليلون ـ من حب لمن حولهم.. من هؤلاء سيدة اتصل أب راع, وحدثني عن ظروفها المعيشية الصعبة, وبعد أن عرض تفاصيل قسوة حياتها وقلة دخل زوجها الذي يعمل يوما ولا يجد عمل أياما, طلب مني مساعدتها في إجراء جراحة مستعجلة وضرورية كما قررت الطبيب الجراح الذي يزور عيادة الكنيسة كل عدة أيام للكشف علي المرضي وما أكثرهم في منطقة تعيش تحت خط الفقر.. وإلي هنا ينتهي دور الطبيب, فالكنيسة لا تملك إلا العيادة, وتقف عاجزة عن أي جراحات وتكتفي بالكاد بصرف المسكنات حتي يفرجها الله وتجد من يتكفل بمصاريف الجراحة من أهل الخير وأصحاب القلوب الرحيمة الذين ما أثقل عليهم علي حد تعبيري.
** رحبت بالأب الذي يحدثني لأول مرة, ومن بين الكلمات كنت أرحب بكل مريض يعجزون عن علاجه في زمن ارتفعت فيه تكلفة العلاجات والجراحات, وأيضا زاد فيه عدد المتألمين الذين لا يستطيعون مواجهة المرضي ويضطرون إلي دفن آلامهم, فأفواه أطفالهم تطلب الطعام قبل الدواء, مؤكدا أن حقل الخير متسع, وأن عين الله علي الجميع, وهو له المجد كما تألم فإنه يعين كل المتألمين.. وانتظرت المريضة.
* مضت الأيام والأسابيع ولم تحضر وأنا وسط كثير من المشاغل نسيت محادثة الأب, وإذ به يعاود الاتصال معتذرا ويطلب تحديد موعد جديد لمريضته.. أكدت له أنه ليس هناك ما يدعو للاعتذار, وإن كان هناك من يعتذر فهو أنا لأنني انشغلت عن متابعة الحالة.. جددت ترحيبي وحددت موعدا جديدا.
** جاء الموعد ولم تحضر, وأعانني الرب واتصلت بالأب الحبيب الذي أبدي استغرابه شاكرا.. بعدها اتصلت بي المريضة نفسها, ولم أسمح لها بالاسترسال في الاعتذار, فما سمحت لنفسي أن أسمعه في البداية كشف لي عن أبعاد مأساوية في حياتها أكثر بكثير مما حكاه لي الأب الراعي.. طمأنتها وأكدت لها أن حقل الخير متسع لكل ما تحتاجه.
** صدقت هذه المرة وجاءت في الموعد المحدد. شابة عمرها يتجاوز الثلاثين بقليل, تزوجت وهي صغيرة هروبا من ظروف أصعب لكن البؤس لم يتركها.. خرجت من بيت يعجز فيه الأب عن توفير احتياجات أولاده, وذهبت إلي بيت إيجاره بالمدة, وعمل الزوج غير مستقر, وما بين هذا وذاك لم يجدوا طريقا إلا الاستدانة, وكادت أن تقع في براثن الغارمات.. سمعتها بإنصات وقلت لنفسي إنه قانون الحياة الغريب.. الفقير يبقي فقيرا, والغني يبقي غنيا إلا فيما ندر!!
** لا أريد أن أطيل عليكم, فالقصة مأساوية, وتفاصيلها أكثر حزنا وبؤسا تكشف عن الكثير من المستور في حياة إخوتنا الأصاغر.. المهم إنها بعد أن أنجبت ابنتها الأولي.. شهور وحملت في ابنتها الثانية.. ومع بداية الحمل بدأت تشعر بألم شديد لم تعرفه في حملها الأول.. لم تعرف له سببا وتاهت وسط تشخيصات من يدعين أنهن أهل الخبرة من جاراتها في حي الفقراء.. تحملت الألم رغم قسوته فقد اعتادت أن تتحمل ما هو أصعب.. ولما مضت الشهور واقترب موعد الولادة زاد الألم, لكنها استمرت تتحمل حتي ولو افترشت الأرض.. بعد الولادة قالت لها طبيبة الوحدة الصحية إنها تعاني من فتاق سري وعليها أن تسرع في علاجه.
** مضي علي هذا عامان.. وهنا عرفت لماذا ترددت أكثر من مرة في الحضور.. المشكلة ليست في الجراحة, ولا في مصاريفها بعد أن وعدناها بالتكفل بكل شيء.. المشكلة في تخوف الفقراء من مواجهة الغد.. تجاربهم أقنعتهم أن الغد سيكون أسوأ.. هواجسها صورت لها أنها يمكن أن تموت في العملية وتتيتم بناتها, وفي هاجس آخر انشغلت بمن يرعي أسرتها وهي بالمستشفي فهي المدبر وسط كل صعوبات المعيشة وصوت الأفواه المفتوحة.
** وجدت نفسي أمام مشكلة تسبق الجراحة التي وعدت بها.. وأشكر الله أنه رغم أنني لست واعظا, ولا طبيب نفسيا, فقد خرجت سالي مطمئنة, تحمل خطابا إلي مستشفي مارمرقس بشبرا.. وظللنا نتابع معها بكل الاطمئنان إجراء التحاليل, وعمل أشعة, والعرض علي طبيب القلب, واستطلاع رأي طبيب التخدير.. وأخيرا تحدد يوم الأربعاء القادم موعدا لاجراء الجراحة.. صلوا لأجلها.