مشهد عابر أداه الفنان نجيب الريحاني في فيلم “سلامة في خير” انتاج عام 1937، يظهر خلاله أحد الشحاذين يمد يديه بطريقة ملفتة للنظر، ليقول له نجيب الريحاني :”هو انت ايدك تمللى كدة ..اجيب لك برسوم يعدلهالك؟!”، ليخلد المشهد القصير اسم برسوم عبر وسيلة من أهم وسائل التوثيق والتأريخ وهي “شريط السينما”..و يدفعنا هذا النص السينمائي القصير لنتساءل من هو برسوم ؟… وما علاقته بأمراض العظام ؟!
بالطبع إجابة هذا السؤال ليست عسيرة علي الجيل القديم الذي عاصر إنتاج الفيلم، وكان هذا الاسم يتردد آنذاك مرارا وتكراراً، والذي يعرف انه كان لمهنة تسمي “المجبراتي”، ليتساءل الجيل الجديد مرة أخرى عن معنى وظيفة “المجبراتي”؟! ، ليتبين أنها من المهن المنقرضة، ومعناها انه الشخص الذي يضمد العظام المكسورة بـ “الجبيرة “، حيث يقوم المجبراتى بإرجاع العظم لمكانه و تثبيته بالخشب .
مهنة ارتبطت باسم العائلة
نعود لاسم المعلم برسوم ، وهو من مشاهير القبط فى علاج الكسور وكانت عائلته تتوارث هذه المهنة جيل بعد جيل، وكانوا يحرصون على كتمان أسرارها . وقد ورث المعلم برسوم المهنة واتقنها عن والدة المعلم ابراهيم جبر الله حتى سميت بالطريقة البرسومية ونقلها إلى ابنه الأكبر يوسف أفندى
عالج المعلم برسوم كبار رجال الدولة والمشاهير مثل الأديبة مي زيادة و الخديوى عباس حلمى والسلطان حسين كامل وكانت عيادته فى مدخل شارع الفجالة مكتوبا عليها مجبراتى جلالة الملك
توفى المعلم برسوم فى يناير عام ١٩١٦م وكانت وفاته حادث جلل فنعته مجلة اللطائف المصورة في صباح الاثنين 17 يناير من عام 1916 وعلى غلافها صورة كبيرة للمعلم برسوم المجبراتي جالس على كرسيه ممسكا بعصاه التي كانت يعالج بها المرضى في صحن بيته وبجوار الصورة عنوان بارز يقول مات برسوم المجبر
انتقل إلي رحمة الله تعالي رجل مصر الشهير في مناعة التجبير، المرحوم الشيخ الجليل الطيب الذكر المعلم برسوم المجبر عن سبعين عاما قضاها في خدمة أبناء وطنه لمعالجة أوجاعهم وآلامهم وأسقامهم.شهرته تخطت الآفاق وذاع صيته في كامل البلاد، واعترف بعلمه ومهارته جميع أبناء الأمة على اختلاف طبقاتهم ومللهم.
تمتع الفقيد بخبرة واسعة وخلق ومهارة في جبر العظام المنكسرة، ومعالجة المفاصل المخلعة والملتوية والمفككة، فكان يأتيه الناس من كل فج وصوب لثقتهم بما اوتي من علم ومهارة لمعالجة كل ما سبق ذكره بالأسرار التي تعلمها من المرحوم والده إبراهيم خير الله الذي مارس نفس الصنعة باقتدار لمدة خمس عشر سنة، أظهر خلالها تفوقا احتفظ بأسراره التي نقلها إلي ابنه برسوم الذي نبغ مثله بما جلب له حسد الجراحين الذين تخرجوا في مدارس الطب العليا واستفادوا من عبقريته في علاج التجبير والكسور والخلع والالتواء
وكان إذا ما فشل الحكماء الذين يعالجون العظام في شفاء مريض نصحوه بالذهاب إلي برسوم المجبر حتى أنه عرف أسلوبه لدى الأطباء بـ الطريقة البرسومية في العلاج، ومن الجدير بالذكر ان المعلم برسوم نقل اسراره في العلاج إلي أكبر أولاده ” يوسف افندي برسوم ” فأصبح على درجة كبيرة من العلم والإتقان نتيجة للتدريب المتواصل الذي تلقاه على يد والده الشيخ الوقور.
كان في حياته مثالا للنشاط، وحب وعمل الخير، وبساطة أسلوبه مع عامة ابناء الوطن الذين يسافرون إليه من كافة أنحاء القطر المصري، والذين يأتون إليه للعلاج على يديه من خارج القطر المصري
كان بيته دائما مزدحما والمرضي لا يجدون داخله مكانا لهم فكانوا ينتظرون في الخارج حتي يأتي دور كل منهم، وكان المعلم برسوم من فرط انسانيته ومحبته يعالج الحالات التي يصعب انتظارها قبل الحالات الأخري، وكم عالج المشاهير من رجال الدولة وأسر الوزراء الذين كا يتعامل معهم كما يتعامل مع أبسط مواطن فقير لجأ إليه يلتمس منه العلاج.
وقد أفردت المجلة 6 صفحات كاملة للمرحوم برسوم المجبراتي تناولت تاريخه مع هذه الصنعة، وأطباء العظام الذين كانوا يلجأون إليه للاستفادة من أسرار علمه، وتتضمن الصفحات حوارات مع من تم شفائهم على يد برسوم المجبر وكلهم اجمعوا على انه رجل معجزة
اللطائف المصورة – 17 يناير 1916
وفى السطور التالية تذكر الأديبة مي زيادة حادث كسر يدها وعلاجها على يد برسوم المجبر وقد كتبتها فى جريدة المحروسة فى ١٩ يناير ١٩١٦ بعد وفاة المعلم برسوم فقالت .
رحمة الله عليك يا برسوم
منذ عامين ونصف تقريبًا وقعتُ وأصاب شمالي صدع في الساعد وكسر، فالتف حولي السيدات والفتيات شفيقات متأسفات، وقال بعضهن بصوت واحد: «أسرعي إلى برسوم!» قلت: «من هذا برسوم؟»
أَجَبْنَ: «اسألي في أي أجزخانة تجدينها في طريقك عن برسوم المُجبِّر، فكل الناس يعرفونه.» عدت إلى البيت وانتظرنا المعلم برسوم ساعات لم يستطع في خلالها إهمال الزائرين عنده من كسيري العظام مثلي، وكان بعضهم آتيًا إليه من الأرياف، ها أنا أرى خياله الآن كما رأيته يومئذٍ وعلامات الغضب بادية على وجهه، ينظر إليَّ شزرًا كأني ألحقت به أذى وكأنه آتٍ ليناقشني الحساب، حيَّيتُه بكلمة طيبة ولا أذكر أنه ردَّ عليَّ السلام، بل أسرع إلى لمس يدي، ويا لها من لمسة دونها لمسة الموت هولًا!
إذا كان جَبْرُ العظام موجعًا إلى هذا الحد، فكم من قلوب كسيرة لا يهتم في جبرها أحد! وكم من نفس ممزقة وليس من يد راحمة تضمِّد جراحها ولو بمثل تلك اللمسة القاسية! لم أخش أحدًا في حياتي كما كنت أخشاه، حتى كنت أسائل نفسي عما أستطيع أن أفعله لاستجلاب رضاه واقلاعه عن إيلامي بتلك الضغطة الغضنفرية، ولمَّا يأتي اليوم الرهيب يوم مجيئه كنت أبكي سلفًا وأتمنَّى أن يغمى عليَّ سلفًا كي تفوتني مرارة تلك اللحظة؛ لحظة إرجاع العظم إلى موضعه حتى إذا ما اصطلحت يدي وكادت تعود إلى ما كانت عليه، أخذ وجه المعلم برسوم بإبداء البشاشة رويدًا رويدًا، وانتشرت رغبة الابتسام على ملامحه، وجاء يومٌ ابتسم فيه بسمة مستكملة الأوصاف، تبعتها بسمات وأحاديث شتى، فطفق يخبرني عن مهنته، وعن خصائص العظم وكيفية إصلاحه إلى غير ذلك من الحوادث العديدة التي مرَّت عليه، وسألته كيف عرف وجعي دون أن يفحص يدي، فأجاب أنه لطول الاختبار أصبح يكتفي بلمحة صغيرة للعضو المكسور ليعرف موضع الخلل فيه.
كنت أُصغي إليه ولا أصدق أن (الدكتور) برسوم الذي يُغضِب ويوجع ولا يرد التحية هو هو الذي يحدثني بهذا اللُّطف وبتلك البسمة.
رحمة الله عليك، يا مجبِّر يدي! كَثُرت الوجوه التي رأيتَها في حياتك، وكثرت العظام التي كنت لها مقوِّمًا، لكن الوجيع الذي رآك مرة لا ينساك، ولعل ذاكرتنا لا تحفظ صورة من الصور بمثل الأمانة التي تحفظ بها صورة مَن أوجعنا ليفدينا؛ ولذا أودُّ أن أقول عن موتك وفقدك شيئًا فيعصاني القول لأن صورتك حية أمامي، رحمك الله رحمة واسعة.
وفي النهاية نود ان نوجه تحية لرجل أزال آلام المرضي وجبر كسور كثيرة لأطفال وكبار ،في وقت لم يكن هناك طب حديث، أو أشعة تسهل طريقة الكشف او تحاليل .