لقد طفح الكيل وفاض بما لا يدعو للسكوت علي الإطلاق عن هذه الهجمة التتارية الشرسة علي الذوق الفني العام علي المستويين العلمي والجماهيري وأقصد بهذه الحملة تلك الكوارث الفنية في الحقل الموسيقي التي تهاجم آذاننا كل يوم علي الشاشة الصغيرة بدعوي [الجديد] في الغناء و[تطوير] الموسيقي المصرية و[استحداث] العبقرية [الشابة] لدفع الموسيقي الشرقية إلي عام 2000! وحتي نعوض ما فاتنا ونسبق الحضارة الأوروبية وكما جاء علي لسان واحد من هؤلاء الأدعياء الجدد والذي سأتعرض لنماذج لبعضهم في هذا المقال, تلك الحفلة الساهرة التي أقيمت الأسبوع الماضي بنادي الضباط احتفالا بتخريج دفعة جديدة من الكلية الحربية.
والمناسبة هامة بلا شك, مناسبة تخريج جند جدد في الجيش المصري الواعد, وكنا نتمني أن نري علي خشبة المسرح حفلا غنائيا يتناسب مع روعة المناسبة لكن وا أسفاه وواخجلتاه مما شاهدنا من ـ كما قلت ـ حملة تتارية ضارية تهدف الإطاحة بكل ما لدينا من رصيد موسيقي قديم ومعاصر!
* في هذا الحفل طلع علينا أحد مدعي الغناء الحديث ـ وهو من الغناء كله براء: ـ فقدم ثلاث أغنيات بدأت أولاها ببعض الحركات الهستيرية وخلفه فرقة خليط من الآلات الإلكترونية وآلات النفخ النحاسية, واسترسل في أداء أحد المواويل بصوته الناشز والنشاز! مما دعا بعض أعضاء الفرقة إلي التوقف عن العزف وحتي لا ينكشف صوت مغنيهم ويتعري تماما وكان هذا الموال أبعد ما يكون عن فن الموال, ثم الأغنية الثانية أصابها ذات الحظ التعس في الاداء غير الفني والذي يتنافي مع أبسط صور الأداء الغنائي حيث تصورت أن هذا المغني قد استبدل آذانه الموسيقي بأذن من طين وأخري من عجين!
وكانت المأساة الكبري في الأغنية الثالثة [قدك المياس] التي قدم لها تقديما حواريا ارتجاليا خاطب فيها جمهور الحفل وبالتالي الملايين الذين يتابعون هذه الكارثة [علي الهواء] إذ قال في مقدمته ما معناه إنه حرصا منه علي الاستفادة بالتراث الشرقي والمصري والعربي الأصيل فقد استعان أحد الموزعين الأوروبيين علي إعداد التوزيع الموسيقي لأغنيته هذه وأنه بذلك يرد علي من يدعون أنت الموسيقي والغناء المصري لم يصل إلي العالمية بعد, وأنه ـ مطربنا المبجل ـ قرر ونوي أن يكون هو صاحب الفضل في نقل الأغنية المصرية من المحلية إلي العالمية! وتوقعنا خيرا بعد هذا المانيفستو التاريخي علي الهواء, وكانت المأساة أفدح بكثير من مأساة الأغنيتين السابقتين! اللحن الأصلي, الاداء رديء رديء رديء, التوزيع [العالمي] تافه وساذج ومن الممكن لأي داري للموسيقي يحبو خطواته الفنية الأولي, أن يقدم توزيعا غنائيا أفضل من هذه المصيبة الموسيقية التي حلت علي هذه الفقرة الفنية!
* النموذج الثاني شاهدته هذا الأسبوع أيضا في إحدي السهرات الفنية المفبركة تليفزيونيا! واحد أيضا من هؤلاء الذين استفادوا من اختفاء الدفء الثقافي الذي ازدهر في الستينات ولم يزل مختفيا حتي الآن, هذا المطرب لا يوجد في صوته أية درجة غنائية بالقياس إلي جميع الآلات الموسيقية ودرجات الصوت الموسيقي البشري, باختصار أن كل إمكانياته هي الافتعال والإبهام والصراخ والتشنج مستخدما في ذلك صوته الجهوري وجسده الضخم وشعيرات رأسه النافرة أمام الميكروفون وهذا الفنان يدعي أنه أمل الأغنية الجديدة ومستقبلها بل ونهارها الوضاء, وفي هذه الأغنية التي كان يؤديها في هذا البرنامج كان صوته أيضا بعيدا ومتنافرا مع النغمات الموسيقية التي كانت تعزفها الآلات حوله لكنه وضح أنه من المستحيل أن يتوافق مع أصوات هذه الآلات ولم أملك إلا أن أحدث من كانوا يجلسون معي وأقول شدي حيلك يابلد!
* النموذج الثالث فرقة عالمية ضمن موضة الفرق الجديدة التي ولدت في نهاية السبعينيات, حيث يعلم مجموع من رواد النوادي الرياضية بالشهرة فيقومون بتكوين فرقة غنائية ولا يهم تبعات هذه الرغبة وتلك الأحلام الهدامة! هذه الفرقة التي تضم خمسة أصوات شقيقة بلغت بها الشجاعة والإقدام أن تقدم بعض أغنيات مشهورة مصرية ولبنانية بصوت أعضائها اللواتي لا يملكن سوي جمال البشرة ورشاقة الحركة ونشاز الصوت وشقيقهم الذي يسيء العزف علي آلة الأورج, والذي يتلوي جسده وسطهن علي إيقاع آلة الرق والدفوف, وفيما عدا ذلك فلا شيء علي الإطلاق ولا شيء يهم!
** وأنني أصرخ الآن بأعلي صوت.. النجدة ياهيئاتنا الموسيقية والفنية والثقافية.. النجدة من هذا الحريق الذي يلتهم آذاننا وحقنا في المتعة الفنية الحقيقية.. النجدة فالمصيبة ضخمة والمأساة كبري والعاقبة عندكم في المسرات!