بمناسبة ما يجتازه الطلبة من امتحانات, أريد أن أكلمكم اليوم عن الامتحانات في الحياة العامة والعملية بالنسبة إلي الإنسان لابد من إمتحان إرادة الإنسان لمعرفة إلي أي اتجاه تميل:
إلي الخير أن الشر, وبأي قدر وبحسب نجاح الإنسان أو فشله الحياة في امتحانات الحياة, يتحدد مصيره في الأبدية, وهذه الامتحانات أيا كانت نوعيتها, يتوقف عليها الثواب أو العقاب في الدينونة العامة. والإنسان الروحي لابد أن ينجح وقد تحدث الرب عن نوعيات الغالبين ونوعيات مكافآتهم, وذلك في رسالة إلي ملائكة الكنائس السبع في سفر الرؤيا (رؤ 2: 3).
من أصعب الامتحانات التي تعرض لها إنسان, امتحان أبينا إبراهيم في تقديم ابنه الوحيد الذي يحبه محرقة للرب, كان امتحانا في الطاعة وفي الإيمان, كان امتحانا أيضا في مدي محبته لله, وفي قول الرب فيما بعد من أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني (مت 10:37).
وقد نجح أبونا إبراهيم في هذا الامتحان بامتياز: لم يتردد أبدا, بل بكر إبراهيم صباحا جدا, وأخذ معه الحطب والسكين وابنه وحيده إسحق.
وبني المذبح, وربط ابنه فوق الحطب, ورفع السكين ليذبحه (تك22).
وكما نجح إبراهيم في امتحان الطاعة والمحبة, نجح يوسف الصديق في امتحان العفة وكان نجاحه بامتياز أيضا, كانت الحظية أمامه سهلة جدا, وكانت تلح عليه كل يوم بل كان عدم ارتكابها يوقعه في إشكالات, لأن التي تطلب منه هي امرأة سيدة. ولكنه تسامي فوق الخطية. وقال عبارته المشهورة كيف أفعل هذا الشر العظيم, وأخطئ إلي الله (تك 39:9).
وفي سبيل عفته, تحمل السجن والسمعة الردية وغضب سيده.
وكما كوفيء إبراهيم علي نجاحه, كذلك كوفئ يوسف الصديق. كوفئ أبونا إبراهيم بنسل كنجوم السماء ورمل البحر في الكثرة, وبأن في نسله تتبارك جميع قبائل الأرض (تك 22:17, 18).
وبورك يوسف بأن أخرجه الرب من السجن إلي الملك, وجعله أبا لفرعون, وسيدا علي كل بيته, ومتسلطا علي كل أرض مصر (تك 45:8).
حقا إن الله أمين وسخي في معاملة الأمناء من البشر الذين يضعون الله أمام أعينهم, وفي قلوبهم التزام كامل من جهة طاعته, أما الخطاة الذين يفشلون, فإنهم ينسون الله أثناء خطيئتهم,, من أكثر الناس الذين نجحوا بامتياز شديد في امتحان الإيمان: كل الشهداء والمعترفين.
كانت أمامهم العذابات التي لا تحتمل, ولكنهم احتملوها في شجاعة فائقة. وكانت أمامهم إغراءات كثيرة ينالونها إن أنكروا الله وعبدوا الأصنام ولكنهم رفضوها في كل سمو ونجحوا في امتحان إيمانهم نجاحا كان له تأثيره فيمن حضروا استشهادهم, فآمنوا بسببهم.
بالنسبة إلي أبينا إبراهيم, كان امتحانه في موت ابنه, أما الشهداء فكان امتحانهم في موتهم هم.. وفي العذابات القاسية جدا, التي كان الموت أسهل منها بكثير.. وإذ نجحوا في احتمالهم وثباتهم, كافأهم الله بأكاليل المجد, وبقبول شفاعتهم في كثيرين بعد موتهم.
ومن الذين نجحوا أيضا بامتياز: السواح والمتوحدون والنساك نجحوا في امتحان التجرد الكامل, والتفرغ الكامل للانشغال بالله ومحبته, في حياة التأمل والصلاة, وحياة الصمت والوحدة. وقد بعدوا عن كل شيء, لكي يصير الله لهم هو كل شيء وبعضهم نجح أيضا في اختبار الخوف, واختبار الشكوك مثل القديس الأنبا انطونيوس الكبير, الذي كانت الشياطين تظهر له في هيئة وحوش مفترسة مكشرة عن أنيابها لتهجم عليه, مع مناظر مفزعة مخيفة, وأحيانا كان الشياطين يضربونه ضربا قاسيا مؤلما.
ولكنه احتمل كل هذا, ونجح في الثبات في وحدته. وجاء الوقت الذي أصبحت الشياطين تخافه فيه. ومنحه الله هيبته تجاههم, ومن الذين نجحوا بامتياز في الإيمان: أبونا نوح آمن بما قاله الله عن الطوفان وأقام سنوات طويلة يصنع الفلك, وبالإيمان أدخل فيه جميع الوحوش والحيوانات والطيور ودخله هو أيضا وأسرته, وأغلقه عليه.. لذلك صار بنجاحه أبا لكل البشرية مثل أبينا آدم. وأخذ نفس البركة والسلطة التي نالها آدم (تك 9: 1, 2).
ومن أكثر الذين نجحوا, ولكن مع نفس تمررت في الطريق: أيوب الصديق الذي نجح في امتحان التجرد وامتحان الصبر جرده الله من كل شيء: من كل ماله, ومن كل أبنائه, بل جرده أيضا من صحته فضرب بقرح رديء من باطن قدمه إلي هامته (أي 2:7) وجرده أيضا من احترام أصدقائه له. وأصبحت رائحته رديئة حتي عند امرأته.. وضحك عليه الأصاغر, وبصقوا في وجهه, وصار أغنيتهم (أي 30: 1ـ11). واحتمل كل هذا وكان يقول الرب أعطي, الرب أخذ ليكن أسم الرب مباركا (أي 1:21).
وهكذا كافأه الرب مكافأة عظيمة, ورفع عنه تجربته, وعاش بعدها 140 سنة (أي 42:16) وأصبح مثالا للصبر كما قال يعقوب الرسول سمعتم بصبر أيوب, ورأيتم عاقبة الرب (يع 5:11).
نجحوا في الدور الثاني
هناك أشخاص فشلوا في الدور الأول, ونجحوا في الدور الثاني منهم يونان النبي, الذي في الدور الأول هرب من الله حيث أمره الله أن يذهب إلي نينوي لينادي عليها فلم يشأ أن يطيع بل ركب سفينة متجهة إلي ترشيش وهرب من وجه الرب.. فعاقبه الرب علي هذا الفشل: بالرياح والأمواج, وإلقائه في البحر, حيث أعد له الله حوتا عظيما فابتلعه (يون 1:15, 17) وفي جوف الحوت, أخذ يونان دروسا خصوصية تعلم بها الطاعة, إذ سمح له بالدور الثاني, الذي فيه ذهب إلي نينوي ونادي عليها, وقادها إلي التوبة (يون 3:3, 10) العجيب أن يونان ـ بعد أن نجح في الدور الثاني ـ عاد فسقط ولم يتركه الله لضعفه, بل أعطاه درسا خاصا.
من الذين نجحوا في الدور الثاني أيضا بطرس الرسول, هذا الذي كان واثقا بنفسه أكثر مما يجب, فلم يستعد بالاتضاع والصلاة للامتحان المقبل. فكانت النتيجة أنه فشل وأنكر السيد الرب ثلاث مرات, وبكي بكاء مرا (مت 26:75).
ولكن بطرس نجح بعد قيامة الرب, ولم يخف كما حدث له من قبل. بل كان يقول لمن يحاولون منعه من التبشير بالقيامة ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5:29).
ومع أنه في مادة الخوف, فشل ونجح في الدور الثاني, إلا أنه أنهي حياته بالنجاح بامتياز, وبخاصة في مادة (الكرازة).. وبقي في حياته في بعض الأوقات شيء من الخوف وبخه عليه القديس بولس الرسول (غل 2:11 ـ 14).
من الذين نجحوا أيضا في الدور الثاني:جماعة التائبين بدأوا حياتهم بالخطية, واستمروا فيها زمنا طويلا, ثم تركوها وتابوا ومن أمثلة هؤلاء: القديس أوغسطينوس, والقديس موسي الأسود, والقديسة مريم المصرية, والقديسة بيلاجية, والقديسة سارة.
سقطوا أولا ثم قاموا بقوة عظيمة, حتي أن أصحاب هذه الأسماء التي ذكرناها أنهوا حياتهم بالنجاح بامتياز, فلم ينتقلوا من الخطية فقط إلي حياة التوبة, بل إلي حياة القداسة.
وأعطونا مثالا نقتدي به, فلا نيأس مهما سقطنا, بل يكون لنا الرجاء في حياة أفضل, ولنضع أمامنا قول الكتاب: الصديق يسقط سبع مرات ويقوم (أم 24:16).
وأيضا قول الكتاب لا تمشمني بي يا عدوني. فإني إن سقطت أقوم (مي 7:8), داود النبي مع إنه كان نبيا عظيما, ورجل صلاة ومزامير, إلا أنه سقط في عدة سقطات (2صم11), ثم أنه قام بعد ذلك, وتاب توبة صادقة, وبلل فراشه بدموعه (مز6).
“البقة العدد المقبل”