يقول الفنان الفرنسي المعروف [رودان Rodin]
لن يظفر العالم بالسعادة الحقة إلا حينما يتهيأ للناس أجمعين أن يكتسبوا روح الفنان, أعني حينما يكون في وسع كل واحد منهم أن يجد لذة فيما يقوم به من عمل]. لكن ما هو الفن؟ ومن هو الفنان؟.
هذا ما يحدثنا عنه الدكتور زكريا إبراهيم أستاذ الفلسفة وعلم الجمال الأسبق بكلية الآداب جامعة القاهرة في كتابه: الفنان والإنسان الذي نشر عام .1973
في هذا الكتاب يقدم لنا المؤلف مجموعة من الدراسات الجمالية القيمة في الفن, والفنان, والعمل الفني, وهو يحاول الدفاع عن دور الصنعة في الفن, فيصف لنا الفنان بقوله: إنه الرجل الصانع الذي يفكر بيديه, ويتصارع مع المادة لينتصر عليها, ويزاول مهنته في صبر وجلد, ويقدم لنا إنتاجا لا يتحقق إلا بعد تردد وتعثر.. والفنان هو ذلك الإنسان الذي يبحث دائما عن القيم الجديدة, فهو يزيد من إحساسنا بالحياة, وحب الحياة. وليس نداء الفن سوي تلك الصرخة التي تهيب بالإنسان أن يكون حرا, وأن يكتشف الإنسان الباطن فيه, أي يكتشف [المخلوق الخالق] الكامن في أحشائه. ينقسم الكتاب إلي 16 فصلا عدا الخاتمة, يناقش الدكتور زكريا إبراهيم فيه: من هو الفنان؟ والفنان والإنسان والطبيعة والصناعة والعقل والخيال, والفنان بين القبح والجمال, والفن بين الجمال والمنفعة, والتربية الجمالية وأثرها علي الذوق, ثم يحدثنا المؤلف بعد ذلك عن: فلسفة الفن عند المازني, و[رودان] رائد النحت الحديث, والفنان [مانيه] بين الواقعية والانطباعية, وأخيرا الفن ومستقبل الإنسان.
الواقع أنه ليس هناك أكثر مما كتب في الفن, فإن الفن كالحب, ظاهرة إنسانية عامة لابد لكل فرد أن يكون قد عرفها, أو تذوقها, أو مارسها, ولكن كما أن كل من يحب, لابد أن يتكلم عن الحب, وكأنما هو أول إنسان قد عرف الحب. فإن كل من يأخذ الفن بمجامع قلبه, لابد أيضا من أن يتكلم عن الفن, وكأنما هو أول إنسان قد عرف الفن!.
والحق أن الفن نشاط بشري عام يرتكز أولا وبالذات علي [الخبرة الجمالية]. وليست الخبرة الجمالية تجربة فريدة قد اختص بها قوم دون قوم, أو جنس دون جنس, أو عصر دون عصر, بل هي ظاهرة بشرية عامة لا شأن لها بخطوط الطول والعرض, ولا علاقة لها بمسائل الجنس, واللون, والتاريخ, وما إلي ذلك, ونحن حين نتحدث عن [الخبرة الجمالية], فإنما نعني بها إحساس الإنسان بالطبيعة إحساسا عميقا, خصبا, وفيرا, واكتشافه لما فيها من نظام, وانسجام, وتوافق. والفارق بين الإدراك الحسي (العادي) والإدراك الجمالي, أن الأول منهما يقتصر علي معرفة الموضوعات. بقصد استخدامها والانتفاع بها, في حين أن الثاني منهما ـ وهو الإدراك الجمالي ـ لا يري في الموضوعات سوي ظواهر جمالية يتذوقها, ويتوقف عندها لذاتها, ولما كان الفن وثيق الصلة بالخبرة الجمالية, فإن لغة الفن في أصلها هي لغة المحسوس حين يتحرر من أسر المنفعة, وقيد الاستعمال العادي, لكي يصبح موضوعا حرا يطلب لذاته.. وربما كانت كل معجزة الفن منحصرة بتمامها في أنه يريد أن يجعل من المحسوس لغة أصيلة تقوم بمهمة التعبير, والفن يحقق هذه المعجزة حين يعرف كيف يخلع علي ذلك المحسوس ضربا من (الامتلاء) الذي يرجع إلي الأسلوب أو الطراز, لا إلي المنطق, أو الحكم العقلي, ومعني هذا أنه ليس في الفن موضع للمفاهيم, أو التصورات العقلية, بل هناك تعبير بلغة الرموز أو الأشكال الحسية. ويحرص معظم علماء الجمال علي توثيق الصلة بين الفن والمجتمع بحجة أن الظاهرة الجمالية هي مجرد ظاهرة اجتماعية, وأن الفن دائما في خدمة المجتمع والجمهور, ولكن من المؤكد أيضا أن الظاهرة الجمالية هي في أصلها ظاهرة إنسانية, وأن الفن هو في صميمه لغة إنسانية يحقق للبشر عن طريقها ضربا من التواصل فيما بينهم.
والفن يقوم بدور مهم جدا في الحضارة البشرية بوصفه أداة اتصال, والمشاركة, والتبادل المستمر, بل إنه من شأن النشاط الفني أن يؤدي خدمة جليلة للأخلاق, لأنه هو الذي ينتزع الأفراد من أسر التمركز الذاتي لكي يحقق بينهم وبين الآخرين (عن طريق التذوق الفني) ضربا من المشاركة الوجدانية الفعالة. ولا شك أن التربية الجمالية وسيلة مهمة نستطيع عن طريقها أن ننتقل من أخلاق جزئية محدودة إلي أخلاق عامة كلية, إذ تحيا نفوس الآخرين في أعماق ذواتنا.
وهل كانت رسالة الفن الكبري ـ في كل زمان ومكان ـ سوي تلك الرسالة الإنسانية العامة التي يتم عن طريقها تحقق التواصل بين بني البشر؟ ألسنا نتعاطف حتي اليوم مع ملاحم اليونان, ومعلقات العرب في الجاهلية, وتماثيل كبار الفنانين في عصر النهضة, ولوحات المصورين الفرنسيين الأكاديميين في القرن التاسع عشر, وسيمفونيات الموسيقيين الألمان, وغير ذلك من الأعمال الفنية في الشرق والغرب علي السواء؟ لأننا نجد فيها جميعا تعبيرا عن الإنسان: ألمه وأمله, حبه وكراهيته, خوفه وجرأته, فكره وخياله, سعادته وتعاسته.
إذن من حقنا أن نقول إن الفن هو أولا وبالذات نشاط بشري أصيل, يعبر بمقتضاه الإنسان عن نفسه, دون أن يكون هذا التعبير مجرد لغة محلية أو لهجة إقليمية.
الفن معلم البشرية الذي طالما لقن الإنسان دروسا في الجودة والإتقان, وحسن الأداة. إنه يعلمنا دائما كيف ننظر, وكيف نري وكيف نفهم, وكيف نحب مهنتنا, وكيف نعشق رسالتنا؟
والفنان هو أولا وأخيرا صانع كما يقول عالم الجمال [سوديو]. وهكذا نستطيع القول إن الفن مهنة لها أصولها وقواعدها, وأن المجتمع نفسه يعتبر الفن وظيفة اجتماعية. ومن هنا فإن الفن (عمل) شبيه بغيره من الأعمال المهنية الأخري التي تستلزم التخصص والدراسة والصنعة والمحاولة والخطأ.