الرباط الوهمي يلتف حول أعناقنا, يقيد نفوسنا, يخنق أرواحنا, يمزق الأربطة المقدسة, دفاعا عن ما نعتقد أنه يشبعنا, يغطي جروح الحرمان فينا, يطعمنا حيث الجوع العاطفي يهلكنا ويخزينا, رشفة من بئر مسمومة, يسقينا الموت ولا يشفينا, ذلك الرباط الذي تحدث عنه روبرت فايرستون عالم النفس الشهير في كتابه الرباط الوهمي, يصف فيه أولئك الواقعين تحت سيف التعلق والارتباط المريض بأشخاص يقدمون لهم نوعا من الرعاية العاطفية التي حرموا منها, أو تلك التي يرغبونها بما يتوافق مع ما لديهم من صراع طاغ نحو توطيد علاقة يرونها مشبعة, علي حساب أي شخص وأي مبدأ, لذلك مهما التهموا من وجبات فوق موائد الرباط الوهمي فلن يشبعوا أبدا, ينظرون من نافذة الحاضر الضيق لا يجدون إلا آفاق المجهول. فحينما يلتقي الجوع بالحب المزيف, لا ينتج إلا مزيد من الجوع, وتتسع دوائر التجويع لتشمل الأبرياء الذين أكل والداهم الحصرم أما هم فيضرسون.
بصمة أب
إنه الوصف الدقيق لما روته لي ماجي, صاحبة قصة الأسبوع الماضي نص روح التي جاءت تشكو خيانات زوجها, وقسوته, وبخله, وتجاهله, حتي تركت له المنزل بعد تكرار طرده لها, تريد إقامة دعوي خلع ضده, وافقتها في البداية حتي تهدأ وحينما هدأت رجعت عن قرارها, إنها تحبه, إنه الحب الحقيقي, عشرة عمرها, نصف روحها, لا تريد تركه, تريد أن يتغير, تريد استرداده لابنه وابنته, لها, لشبابها الذي انقضي مذلة واهانات وعدوانا إن لم يكن بالكلام فهو بالصمت القاسي, ونرجسية وليدة هشاشة ثقته بنفسه.
لكن تقف امرأة أخري حائلا بينهما, هذا هو مربط الفرس, الرباط الوهمي, الذي يربطهما يمزق الرباط المقدس الذي استلماه واستوثقا به أمام الهيكل قبل عشرين عاما.
جاءت ماجي مصطحبة ابنتها, الدموع تقفز من عينيها كلما حلت سيرة أبيها, تقول في براءة: نفسي أشوفه نفسي أرجع البيت, نفسي يسأل عني ويخدني ولو بالعافية أنا بنته هو أبويا لو ماعملش ده وحسسني أنه عايزني وبيحبني مين يعمل كده؟ غيابه طال, إزاي قادر يسيبنا ويبعد عنا لا عارف أكلنا ولا جعانين, عيانين ولا كويسين, بنمد إيدينا لمين علشان نصرف؟ مش عارف ومش عايز يعرف مع إننا ماخترناش إنه يجيبنا الدنيا, شهور ماشفتهوش قربت أنسي شكله, أصل شكله مش صورة, شكله بصمة اب وأنا مش لاقياها.
وانفجرت الابنة البائسة وسط نهر من الدموع, لم يكن لدي رد يخفف ما تحتمله من آلام, لم يكن لدي حلول فأنا العكاز العاجز إلا عن الاستماع, قررت التدخل, فلم يكن مني إلا أن بادرت بلقاء الوجه الثالث الذي يشارك ماجي زوجها ويختطف منها ومن ابنتها اجمل سني العمر.
واجهتها فأنكرت, وهل يعترف القاتل حينما يعلم أنه سيساق لحبل المشنقة!, بدأت تروي كيف ترتبط به رباط الصداقة الطاهرة, التي لا يمكن أن تدمر أسرته, ثم انسحب حديثها عن عيوب تراها ماجي فيه وتنغص عليها حياتها, عيوب لا تتعلق بوجود امرأة أخري في حياته.
قالت في قوة مزيفة: أولا: ماجي تراه خائنا, ومغرورا, بينما أراها تبالغ في ذلك. ثانيا: تشيع عنه أنه يخبئ أمواله, ويرفض الإنفاق علي ابنه وابنته, في حين أن ظروفه المادية معقدة ويجب الاشفاق عليه. ثالثا: تتهمني بإقامة علاقة غير مشروعة معه, لمجرد أنني أداوم علي دعمه النفسي كصديق, لست مسئولة عن أوهامها, ولن أتخذ قرارا في حياتي من أجل اشخاص يتوهمون أشياء غير حقيقية.
عناد الاحتياج
استمعت إليها وأنا أتابع قدر الزيف والتلفيق الخالي من كل شعور طبيعي تجاه أسرة تتحطم علي صخرة عناد امرأة يكسرها الاحتياج لرجل ليس رجلها, وقساوة قلب رجل يرتبط بامرأة تسد له النقص الحاد في ثقته بالنفس, وسألتها:
ـ هل تصدقين ما تقولين؟
** اجابت: نعم
ـ إذا كان الأمر هكذا أيهما أغلي, وجودك بجانبه أم استقرار أسرته؟
اتجاها مختلفا غير متعارضين.
ـ ألا ترين أنك ترتبطين به رباطا وهميا تدفع ثمنه زوجته من كرامتها وأمان أولادها؟
أوهامها هي التي تقودها لخراب بيتها.
ـ وإذا كان وجودك هو السبب الأكبر فيرخراب هذا البيت, فلماذا لا تتنحين, إذا كانت ماجي لا تستحق, ألا تستحق ابنته ذلك؟ألا ترين في هذه الفتاة الصغيرة أي باعث يحرك ضميرك لتتركيه لها, إذا كان وجودك في حياته أو وجوده في حياتك يهدد كليكما, فانسحابك هو الحل العاقل لتبتعدي بنفسك عن الشبهات التي تطالك, والحياة كفيلة أن تجد لك صديقا يعوضك إياه صدقيني الأمر يستحق, هناك أبرياء ينسحقون تحت أقدام عنادك وتعلقك بهذا الرجل, هناك أبرياء يساقون للذبح تحت سيف الترك والهجر, بينما تساقين أنت لهاوية الخزي التي لن تخرجي منها إلا بعمل معجزي.
ـ كان رده عجيبا فقالت:
ـ الشبهات ستظل موجودة حول أي علاقة بين رجل وامرأة في مجتعنا
ـ وأسرته والزوجة المظلومة وابنته التي في أمس الحاجة إليه؟
كل شخص مسئول عن اختياراته.
أدركت من ردودها أن تلك هي اختياراتها, اختارت الرباط الوهمي الذي سوف تفيق علي تمزقه عاجلا أم آجلا, إنها الشخص المحتاج لتأهيل نفسي شديد حتي تعود هذه الأسرة لسابق استقرارها, إنها أماتت ضميرها مقابل ضمان سداد احتياجاتها, لأنها لا تستطيع الاستغناء عنه, أما هو فمستسلم لما يرضي هواه النرجسي, هو الغائب الحاضر في القصة, الفاعل والمفعول به, الجاني, وصاحب الفاتورة الأكبر حينما يحل وقت السداد, لأنه آنذاك سيسددها من سلامة واستقرار أسرته الصغيرة, التي لن يجد سواها في آخر المطاف.
وطالما استمر مدعوما بهذه المرأة, غير ملوم من عائلته, لن تذوب صخور القسوة في روحه, والتساؤل الآن: ماذا تفعل الزوجة المجروحة بعد تكرار المواجهات بلا طائل؟ واستمرارها خارج المنزل بلا عائل مادي أو معنوي بلا رعاية أو عائل ينفق علي الابن والابنة, للأسف لا أحد يمكنه الإجابة لأن الخيارات المتاحة أحلاها مر. (انتظرونا في حلقة ثالثة من نص روح).
أغيثوا مني
مني امرأة في الخامسة والخمسين من عمرها, مصابة بفرط النشاط في الغدة الدرقية, جاءت من إحدي القري الفقيرة بسوهاج, لم يكن معها حتي مصروفات المواصلات أو الإقامة, يصطحبها ابنها الذي سبق وأن ساعدنا في تكلفة جراحة استئصال أورام في القولون له, كما سبق وأن ساعدنا في تكلفة زواج اخته, والأمرهنا يتعلق ليس باستعراض قائمة المساعدات وإنما لشرح مدي احتياج الأسرة والظروف العنيفة التي مرت بها علي مدار سنوات مضت, خاصة أن عائل الأسرة متوفي, ولتأكيد أننا علي صلة وطيدة منذ زمن بالأسرة وبالكاهن المسئول عنها في الكنيسة والذي والذي لم يتخل عنها في حدود الإمكانيات الضعيفة لهذه القري, والتي يعرفها الجميع.
مني تعاني من فرط نشاط الغدة الدرقية منذ فترة طويلة حاولت الامتثال للعلاج لكن دون جدوي, حينما جاءت لتطلب المساعدة في تكلفة التحاليل التي تسبق الجراحة فوجئت بتغير جذري في هيئتها, اقرب للمومياء المتحركة فوق الأرض, انخفاض عنيف في الوزن, ونهجان مستمر, ولمن لا يعلم فإن النشاط المفرط للغدة الدرقية يحدث عندما تنتج الغدة الدرقية كمية كبيرة من هرمون الثايروكسين قد يسبب ذلك زيادة سرعة الأيض بأنها عمليات البناء والهدم في الجسم أو الحرق, وينتج عنه فقدان الوزن غير المقصود وسرعة وعدم انتظام ضربات القلب.
في بعض الأحيان, يتضمن العلاج إجراء جراحة لإزالة الغدة الدرقية بأكملها أو جزء منها. وقد يكون ترك الغدة بلا إزالة خطيرا إذا تم تجاهله, وذلك هو ما أخبر به الأطباء مني, فطلبوا سرعة اتمامها, لكن تكلفة الجراحة سبعة آلاف جنيه, لا تملك منها جنيها واحدا, وبخلاف تكلفة الجراحة توجد تكلفة إقامتها, هي وابنها للمتابعة في القاهرة, فضلا عن تكاليف العقاقير التي يجب تناولها في الفترة التالية للجراحة, اتصل بي الأب الكاهن المسئول عن الكنيسة التابعة لها مني, وأبلغني أنه سوف يقدم ألفي جنيه مساعدة ويتبقي خمسة آلاف , وما زالت مني تنتظر مساهمات أهل الخير لتجري الجراحة خلال أيام, وما زالت تجسيدا حيا لابناء قري الصعيد الفقراء المطحونين بين شقي رحي الفقر والمرض.