نحن نحتفل الآن بصوم آبائنا الرسل القديسين, وفيما نحتفل به, نذكر أن لكل صوم هدفا روحيا يصاحبه.
وصوم الرسل هو صوم الاستعداد للخدمة, صامه الرسل استعدادا لخدمة الكرازة التي عهد بها الرب إليهم, إذ قال لهم أذهبوا إلي العالم أجمع, واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر 16:15): اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به (متي 28:19ـ 20).
فكان لابد لهم أن يصوموا, استعدادا لهذه الخدمة العظيمة الواسعة.
والسيد المسيح نفسه, بدأ خدمته بالصوم والاعتكاف أربعين يوما علي الجبل, ونحن في سيامة الآباء الكهنة الجدد, نعطيهم فرصة للصوم والاعتكاف في أحد الأديرة أربعين يوما قبل بدء خدمتهم. وكذلك الأسقف الجديد يبدأ خدمته بالصوم سنة.
وهكذا صام الرسل, وتحقق في صومهم قول السيد الرب عنهم:
لكن ستأتي أيام, حين يرفع العريس عنهم, حينئذ يصومون (متي 9:15).
وهكذا نحن في صوم الرسل, نذكر أنه كان للخدمة, فنذكر أن الخدمة لابد أن يلزمها الصوم.. حتي يكون الخادم في حالة روحية تتناسب مع عمله الروحي كخادم. وأيضا لكي يتذلل أمام الله بالصوم حتي يعينه في خدمته ويقويه.. كذلك فإن الخدمة تقابلها معطلات من الشياطين الذين لا يخرجون بشيء إلا بالصلاة والصوم (متي 17:21).
وفي صوم آبائنا الرسل, إذ نذكر خدمتهم في نشر الملكوت, نتذكر كيف ينبغي علينا أن نتمم رسالتهم في الخدمة والكرازة وبناء الملكوت.
فهذه هي المعاني الروحية التي ينبغي أن نضعها أمام أعيننا ونحن نصوم صوم الرسل, ليس الأمر مجرد انقطاع عن الطعام, أو زهد فيه, إنما مناسبة نذكر فيها الخدمة وأهميتها, وما قام به آباؤنا الرسل القديسون, الذين إلي أقطار الأرض بلغت أصواتهم (مز19).
ونذكر أن الخدمة, إنما هي عمل محبة..
فإذ نحب الناس, نهتم بخلاصهم وأبديتهم, وإذ نحب ملكوت الله, نعمل علي بناء هذا الملكوت, بكل غيرة مقدسة, وبكل جهاد وتعب, كما كان آباؤنا الرسل أيضا يعملون, حتي أنه علي أيديهم قيل كان ملكوت الله قد أتي بقوة.. وقيل وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم (أع 4:33).
إننا حاليا في فترة الصيف, وهي مناسبة جدا للخدمة.
سواء الخدمة العادية, أو موضوعات النشاط الصيفي التي تقوم بها كل كنيسة في أثناء عطلة طلبة المدارس. فليت الجميع لا تفوتهم هذه الفرصة. وبكل اجتهاد يعملون عمل الرب, ويعوضون ما يكون قد فاتهم في فترات انشغالهم الأخري.
إن للخدمة أمجادا كثيرة نحن لا نستحقها.
أولا هي عمل مع الله, شركة مع روحه:
يقول القديس بولس الرسول عن خدمته هو وزميله أبولس نحن عاملان مع الله (1كو 3:9).
ما أجمل أن نعمل مع الله, نكون شركاء لروحه القدوس في العمل, هو يعمل فينا ويعمل بنا, ويعمل معنا, يستخدمنا كآلات له يضعها في يده الكلية القداسة, ويبني بها ملكوته.
إنه تواضع مع الله أن يشركنا معه في العمل.
لا شك أن الله يستطيع وحده أن يعمل العمل كله, وبمنتهي الإتقان والكمال, بدوننا.. يعمل بنعمته وبروحه القدوس, ويقود الناس إلي الإيمان وإلي التوبة, ويوحي إليهم بما يريده أن يكون.. ولكنه ـ تبارك اسمه ـ من فرط تواضعه, شاء أن يشركنا معه في إنقاذ الناس, وفي جذبهم إليه, وأعطانا خدمة المصالحة ننادي أن اصطلحوا مع الله (2كو 5: 18, 20). ما أجمل قول الرسول من رد خاطئا عن ضلال طريقه, يخلص نفسا من الموت ويستر كثرة من الخطايا (يع 5:20).
أية محبة يقوم بها الخادم, حينما يخلص نفسا من الموت؟! وأي إكليل يناله من الله علي هذا؟!
هوذا الوحي الإلهي يقول في سفر دانيال النبي الفاهمون يضيئون كضياء الجلد, والذين ردوا كثيرين إلي البر, كالكواكب إلي أبد الدهور (دا 12:3). ولذلك فإن رسل المسيح يوضعون في القمة, لأنه عن طريقهم انتشر الإيمان في المسكونة كلها..
الخدمة حب, وهي أيضا غيرة مقدسة, تدعو إلي البذل, وتستهين بالتعب, من أجل ربح النفوس.
هي ذي الغيرة تلتهب في قلب القديس بولس الرسول, فيقول من يعثر, وأنا لا ألتهب (2كو 11:29). بل يقول أيضا في ملء محبته كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح, لأجل إخوتي, أنسبائي حسب الجسد (رو 9:3).
ومن أجل هذا كان الآباء الرسل يظهرون أنفسهم كخدام الله, في صبر كثير, في شدائد في ضرورات, في ضيقات في ضربات, في سجون في اضطرابات في أتعاب, في أسهار في أصوام.. بمجد وهوان, بصيت رديء وصيت حسن… (2كو 6: 4 ـ 8).
كل ذلك لأنههم كانوا في خدمتهم يقدرون قيمة النفس الواحدة.
يجاهدون حتي لا يهلك أحد, حتي الخروف الواحد من المائة يبحثون عنه, وبكل فرح يردونه إلي الحظيرة.. من أجل هذا قطعوا المسافات, وعبروا البحار, في زمن لم تكن فيه المواصلات ميسرة مثل أيامنا, وجالوا من بلد إلي بلد, ومن مدينة إلي مدينة, ومن قرية إلي قرية, لكي يوصلوا كلمة الرب إلي كل أحد. وكما قال القديس بولس: منذرين كل إنسان, ومعلمين كل إنسان, بكل حكمة لكي نحضر كل إنسان كاملا في المسيح يسوع (كو 1:28).