يقول الفيلسوف أرسطوطاليس في مجال الدفاع عن الفلسفة: إذا لزم التفلسف فلنتفلسف وإذا لم يلزم التفلسف فلنتفلسف أيضا لنثبت عدم لزوم التفلسف. وهو يعني بذلك أنه لا غني لنا عن الفلسفة سواء كنا مؤمنين بها أو غير مؤمنين لها, مؤيدين لها أو معارضين.
والفلسفة في مدلولها اللغوي هي محبة الحكمة. فسقراط يوم وصفوه بالحكيم, تواضع وقال لست أنا حكيما, وإنما أنا فيلسوف! (محب للحكمة). وفي وظيفتها بحث دائب لبلوغ إلي الحكمة بشقيها. النظري والعملي. والحكمة النظرية هي في كمال المعرفة والحكمة العملية هي في السلوك القويم, وحسن التدبير, ومن بين العاملين الخيرين لا يبغي التحقق بها, الغاية السامية النبيلة التي تتفق مع وجوده الناطق وكيانه العاقل.
والإنسان فيلسوف بطبعه لأنه ميال إلي المعرفة, وفي غريزته حب الاستطلاع ما خفي عنه وهو دائما يفلسف الوقائع المادية ويفتش عن الأسباب التي تكمن وراءها, ويحاول أن يتقصي عن العلة الحقيقية في كل حدث من أحداث الحياة. حتي الموت, علي الرغم من أنه حقيقة معروفة, لكننا نتقصي أسبابه في كل حالة فنحن نسأل عن الميت لم مات: وهل كان مريضا مرضا خطيرا أو هل وقع له حادث فاحترق أو غرق أو تهشمت أعضاؤه؟! أو هل أدركه سن الشيخوخة! أو هل صدمه خبر مؤلم! وهكذا..
فجميع الناس يسألون, وتثيرهم مشاكل الحياة ووقائعها لطلب المعرفة في حقيقتها وأسبابها وحلولها, وكل الفارق بين إنسان وآخر أن واحدا يشعر بحاجته إلي المعرفة ولكنه يكسل عن السعي وراء الجواب الشافي, وينشغل عن نفسه بملاهي الحياة التي يأخذها بعضها برقاب بعض, بينما تجذب هذه الأسئلة نفسها إنسانا آخر, فيوليها اهتمامه, ويجري في طلب جواب يشبع نفسه ويقنع عقله.
وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفكر البشري في محاولته فهم الحياة, وأسرار الوجود والأسباب الحقيقية للوقائع الحاصلة سواء كانت وقائع الطبيعة الكونية أو ظواهر النفس البشرية.
لهذا كله كانت الفلسفة جماع جميع العلوم كما يقول هربارت سبنسر, منها اشتقت العلوم ثم كبرت فاستقلت عن أمها الفلسفة. وعادت هذه العلوم فتشعبت إلي علوم أخري فرعية وهكذا… ومع ذلك لن يكون العلم في غني عن الفلسفة, ولا الفلسفة في غني عن العلم. الفلسفة تلهم العلم وتثيره وعنها يأخذ فروضه التي يتابعها بالتجربة إلي أن يتوصل إلي القانون العام الذي يربط الظواهر ويحكمها, والفلسفة بدورها تنتفع من العلم وتفيد من تجاربه, وتمتد إلي فروض جديدة وتأويلات جديدة تتمشي مع الوقائع الحية والقوانين العلمية الثابتة. وهكذا يقال: كل من الفلسفة والعلم يأخذ عن الآخر يفيد منه. وفي هذا كله تطور للفكر البشري وتحصيل لخبرات جديدة ومعارف جديدة.
هذا إلي أن الفلسفة أعلي من حيث أنها تستأثر بأرقي القدرات العقلية في الإنسان وهي الفكر. ولئن كانت العلوم البشرية وهي بحث في الأصول الفكرية دون التفصيلات والتفريعات التي تختص بها العلوم المادية. ولذا يمكن أن يقال من دون مبالغة إن دراسة الفلسفة أنفع للعقل من دراسة العلوم. ومن يدرس الفلسفة أولا يصبح أكثر قدرة علي دراسة العلوم. والعكس ليس بصحيح لهذا كانت الفلسفة ولا زالت أشق جميع العلوم. ومن هنا رأي أفلاطون أن الفلاسفة والمفكرين أقدر علي قيادة المجتمع من غيرهم.
والفلسفة تفكير عميق, ودارس الفلسفة, لذلك, يزداد في كل يوم مقدرة علي التفكير العميق والبحث الجاد الرصين في مجال المدركات العقلية المجردة عن الأغراض الحسية.
والفلسفة تكسب العقل دقة في البحث. فالمنطق وهو أول علوم الفلسفة يعني بتحديد الألفاظ والمدركات. كذلك تاريخ الفلسفة يقدم للدارسين مذاهب فلسفية متباينة, نشأت من نقطة بدء واحدة ثم اتسعت شقة الخلاف بينها حتي أصبحت متعارضة أشد التعارض. هذا والفلاسفة يلجأون أحيانا إلي ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة للتعبير عن معان جديدة وقد يضطرون إلي استخدام ألفاظ معروفة, ولكن في معان مغايرة للمعاني المألوفة.. كل هذا من شأنه أن يكسب العقل خاصتي الحذر والدقة, والتوقف عن الحكم أحيانا, ومحاولة التثبت من كل خطوة قبل الانتقال إلي غيرها وعدم الخلط بين الألفاظ ومدلولها, والدقة في تخير الألفاظ المناسبة للمعاني بحيث لا يكون اللفظ أوسع من المعني ولا أضيق منه.
إن شباب الجمهورية العربية المتحدة في حاجة ماسة إلي المزيد من دراسة الفلسفة, بها تكبر عقولهم ونفوسهم, وبها يصيرون أقدر علي توجيه مستقبلهم ومستقبل مواطنيهم. وبها يتغلبون علي الميوعة التي أفسدت البعض منهم, وبها أخيرا يمكنهم أن يفهموا علي وجه دقيق حقيقة المذاهب الفكرية التي تغزو عالم اليوم والتي تهدد القيم الروحية والإنسانية.