الإنسان يحتاج يوميا إلي تغذية عقله كما يغذي جسده, فكما يحتاج الجسد إلي طعام متنوع ومتباين لينبني ويصح ويتعافي ويقوي ويستطيع أن يقوم بدوره في الحياة والعمل والتعمير, يحتاج أيضا العقل إلي غذاء لينمو وينضج ويكتسب الخبرات والتجارب وغذاء العقل هو الثقافة, وهي كالطعام تماما, يحتاج إليها كل إنسان دائما يوميا.
وإذا كان الجسد لا يستطيع الاستغناء عن الطعام فإن العقل أيضا لا يستطيع الاستغناء عن طعامه. فالله الخالق العظيم خلق الإنسان من جسد وعقل, ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر, بل إن الله ميز الإنسان بهذا العقل عن كل المخلوقات الأخري.
الإنسان العادي يتناول الطعام في ثلاث وجبات يومية لكن ـ للأسف ـ لا يحرص علي تناول الثقافة, وهي غذاؤه الثقافي ولو مرة واحدة يوميا, بل يتناولها بالمصادفة دون اهتمام مع ضرورتها التي لا تقل عن طعام الجسد.
تعودنا نحن أبناء الزمن الجميل, المعمرين, أن نبدأ صباحنا بوجبة الصباح الثقافية المفيدة المنوعة وهي قراءة الصحف وفيها نلتقي بأخبار العالم والعلم والفن والأدب, ونشعر أننا جزء من هذا العالم, ثم ننتقل لاستكمال وجبة الصباح من الراديو أو المذياع, وهو وسيلة مهمة جدا للثقافة والفكر والفن, فكنا نحرص علي سماع الموسيقي الحية من الراديو, وكانت ترفع من روحنا المعنوية وترتقي بنا وتنشر الفرحة والبهجة والأمل في نفوسنا فنصفو لنبدأ يومنا بالموسيقي والقراءة والسعادة والأمل والعمل الجاد والحب. هكذا كانت الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما والكتب بالطبع زادنا الثقافي وغذاء العقل مساو تماما للطعام الجسدي ومن هنا تمتعنا بحياتنا الجسمية والعقلية والنفسية والروحية, وأصبحنا أشخاصا أسوياء لنا هدف في الحياة وفلسفة في الدنيا ومشروعات خاصة بكل منا.
* والثقافة بمعناها الشامل, بحسب تعريف اليونسكو الأمم المتحدة 1982 هي جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا معينا, أو فئة اجتماعية معينة وهي تشمل الآداب والفنون وطرائف الحياة, كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات والأمثلة الشعبية.
* كلمة ثقافة جديدة علي اللغة العربية فهي بنت القرن الـ20 وقد وضعها كاتبنا الكبير سلامة موسي ضمن الكلمات العربية التي ضمها للغتنا العربية, فهو مبتدع كلمة ثقافة بعد أن كان يعبر عنها بكلمة معرفة أو معلومات. وكلمة ثقافة تعبر عما يفعله الفلاح عندما يأتي بجريد النخل ويثقفه أي يهذبه ويمشطه ليصنع من سبت للفاكهة أو كرسي للجلوس عليه, وهكذا فالثقافة نوع من التهذيب والتوضيب. ولأن سلامة موسي (1887 ـ 1958) له باع كبير في نشر الثقافة والتنوير في المجتمع, فهو القائل إن الثقافة تحول عمر الإنسان البيولوجي الحيوي الذي يمتد إلي مائة سنة تقريبا إلي أن يكون عمر جيولوجي أي يقترب من عمر الأرض الذي يعود إلي ملايين السنوات, فبذلك تزدهر حياتنا وتنمو وتتفوق بالثقافة والمعرفة.
والثقافة هي حياتنا كلها, الطعام والشراب والثياب والعادات والتقاليد والزواج والأفراح والقوانين والعلوم والفنون والرسم والتمثيل والموسيقي والسينما, بيوتنا متنزهاتنا قاعات الحفلات والعزاء, كل مناسبات حياتنا المختلفة, كل حياتنا هي ثقافتنا, وثقافتنا هي كل حياتنا, ومعرفة حياتنا هي نوع من الثقافة الضرورية حتي نعرف حياتنا, وكثير من الشعوب تعرف ثقافتها بل وتتطلع إلي معرفة ثقافة الشعوب الأخري, فهذا يثري تجربة الإنسان ويفيده في حياته, فتبادل ثقافة الشعوب مفيد لكل شعب.
* يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين 1889 ـ 1973المثقف هو الذي يعرف من العلوم والفنون ما يجعله يحكم علي الأشياء حكما صحيحا أو مقاربا.. وقد انتشرت الثقافة حتي أصبحت هناك ثقافات مختلفة في حياتنا, أو حتي أصبحت حياتنا عدة ثقافات متخصصة, فهناك الثقافة العلمية, الثقافة الأدبية, الثقافة الطبية, البيئية والغذائية والصحية والأسرية والفنية والسينمائية, وفي كل فرع وعلم. وتقاس درجة ثقافة الإنسان بما يعرف من حقائق ثقافية وكيف يمارسها في حياته, هناك حقائق ثقافية قدمها لنا الأقدمون ومازلنا نستفيد بها, فمثلا أبو التاريخ هيرودوت 484 ـ 425ق.م له قول مأثور ضمه كتابه عن مصر يقول.. كيف يمرض المصريون ولديهم البصل والثوم والليمون إنه يعبر عن عظمة مصر القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد والإنتاج الزراعي المتقدم علميا لدرجة أن العلم في أيامنا هذه يعتبر هذه النباتات المصرية صيدلية غذائية صحية لكل إنسان.
والفيلسوف اليوناني أفلاطون 427 ـ 347 ق.م له حقيقة ثقافية لكل زمان ومكان فهو يقول: علموا أبناءكم الفنون والموسيقي وبعدها أغلقوا السجون.. أليست هذه حقيقة أثبتتها كل العلوم والفنون في تربية النشء التربية السليمة المحبة المهذبة حتي يكونوا أسوياء الشخصية مفيدين لبلادهم وعالمهم؟ هناك قول أيضا لأديب إنجلترا الكبير شكسبير 1564 ـ 1616 يقول: الظلام الحقيقي هو الجهل.. وهذه حقيقة حياتية ثقافية.
* الإنسان يتعلم, يتثقف من مجرد نظرة إلي الكون, أو مجرد قصاصة ورقة يقرأها أو كلمة يسمعها أو حقيقة يعرفها, فالكون كله مصدر الثقافة وهو ملك لنا ويرحب بنا. ألم يتعلم الإنسان دفن الموتي من منظر الغراب الذي رآه قابيل وهو يدفن غرابا مثله, وكان محتارا كيف يفعل بجثة أخيه بعد أن قتله؟
* المصريون يشعرون بسعادة لاهتمام العالم كله بتاريخهم القديم باعتبار أن مصر هي أم الدينا وأصل الحضارة ومنبع الضمير, أليست مصر هي أول دولة في التاريخ وهي التي قدمت العلوم والفنون والفلك والآداب؟ ثم أليست مصر هي الدولة الوحيدة التي يطلق علم علي تاريخها وهو علم المصريات؟ من المستحيل أن لا يقرأ مصري كتابا واحدا من كتب التاريخ للعلماء والمؤرخين الأجانب والمصريين ليتعرف علي حضارة بلاده وعظمتها ويفخر بها ومن حقه ذلك.. هنا أقول لابد لكل مصري أن يثقف نفسه بتاريخ بلده وهذا واجب وطني.
* الثقافة غذاء العقل وضرورة لكل إنسان حتي يشعر أنه إنسان, من هنا علينا أن نأخذ يوميا الثقافة بشتي ألوانها فهي كالهواء والماء فعلا, ولا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها وهذا ليس مجرد كلام مسترسل بل هو حقيقة حياتية إنسانية. قد يسأل البعض عن الثقافة والحضارة والفرق بينهما. الواقع أن الثقافة هي نظرية تتمثل في المعرفة والمعلومات والقيم والشعارات التي نؤمن بها, أما الحضارة فمعناها عملي أكثر كلمة حضارة Civilization جاءت من كلمة Civilizaty الإنجليزية ومعناها دقة التعامل بين البشر واحترام الآخر, الثقافة Culture والحضارة هما جناحا السعادة والحب والسلام بين البشر. الإنسان المثقف المتحضر يحترم الإنسان في كل مكان, يحترم الإنسان لأنه إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ولغته ودينه وطوله وعرضه وثرائه وفقره. فالإنسان في كل مكان في العالم, مهما اختلف عني هو أخي وأختي, لأننا عندما نقول إنسان فإننا نقصد الرجل والمرأة لأنهما متساويان هكذا خلقهما الخالق العظيم, من هنا فنحن لا نفرق بينهما. إذا تسلح الإنسان بالثقافة والحضارة وعمل العقل في كل أمور حياته, سيكون سعيدا يحلق في سماء البهجة والفرحة والخلود. لقد خلقنا الخالق العظيم لنحيا في الحياة ونفرح بها ونعمرها لا نعانيها ونكابدها ونتألم منها بل لنفرح ونسعد بها لأنه أرحم الراحمين.