تنمو العلاقة مع الله فتدخل إلي العمق في صدق التعاطي مع الذات, وتتسع إلي الأفق في مشاركة الصداقة مع الآخرين. عندما تعبر هذه العلاقة مراحل الانفتاح بالصلاة, والتجدد بالاستعداد للعطاء السليم تبلغ الاتقاد الذي ينقل المؤمن من حياة منغلقة إلي حياة منفتحة.
لقد اختبر تلميذا عماوس حضور يسوع الجديد الذي أشعل في داخلهما حمية الإيمان والرجاء والحب, فبدلا مسارهما الجغرافي بعدما تحولا في مسيرتهما الإيمانية وهذا ما حصل في المحطات الخمس التالية:
1ـ أورشليم ـ عماوس:
يسلك التلميذان خط النزول, إن علي صعيد التنقل وإن علي صعيد الحالة. ينتقلان إلي أورشليم حيث المركز الديني الكبير المعروف بالهيكل وكل نشاطات طقوسه وأعياده وتعاليمه, وما حصل في الأيام الثلاثة الأخيرة, الحدث العظيم الذي هز المدينة, حدث موت يسوع ومعه موت انتظاراتهما وتطلعاتهما. ويذهبان إلي الهامش, عماوس القرية الصغيرة ليعودا إلي ما قبل يسوع. يعيشان حالة الانخذال.
2ـ في الطريق
دخل يسوع بينهما بكل هدوء, كعادته, إنه يسير مع الإنسان علي دروب حياته وفي كل حالاته, وبالأخص في حالة الانكسار والانخذال. يحضر عند المحنة ليسند, وبهذا نعرف أنه الله. لو راجعنا العديد من الأحداث في الكتاب المقدس لوجدنا هذا الحضور المعزي, المقوي, والمشجع, (علي سبيل المثال: موسي ما وراء الصحراء عند العليقة, إبراهيم لحظة ذبحه وحيده إسحاق, التلاميذ في السفينة والعاصفة تهددهم…) دخل يسوع في طريقهما ودخل أيضا في حديثهما. ولما أخبراه بقراءتهما للأحداث التي جرت متشكين من عدم بلوغهما لما ينتظر, وبخهما علي قلة إيمانهما, وعندها شرع يشرح لهما قراءته الخاصة للأحداث ذاتها منطلقا من الكتاب المقدس مبينا معني آلام يسوع الذي ذهب بحبه حتي الأخير ليفدي الناس. في ضوء الكلمة يتعرف الإنسان علي عمل الله الحقيقي الفاعل في حياته. عندما نقرأ كلمة الله بإيمان نري في أحداث حياتنا ما يعده الله لمحبيه الذين اختارهم.
3ـ امكث معنا:
لقد جذبت كلمة الله التلميذين نحو الغريب فتمسكا به. إنها مرحلة الدخول إلي الشراكة الأعمق في الحياة بعد الشراكة في الفكر والوضوح. تطورت علاقتهما فيه فأرادا أن يذهبا معه إلي الأبعد فاستضافاه, وهنا أحسنا الضيافة علي ما تقتضيه العادة كما تؤكد الرسالة إلي العبرانيين: لا تنسوا الضيافة فإنها جعلت بعضهم يضيفون الملائكة وهم لا يدرون (عبر 13/2).
لقد بدأ القلب يتقد ونوعية علاقتهما بالغريب وصلت إلي الارتياح إن حسن الضيافة يبني العلاقات الصادقة بفرح, فيبادر الناس بعضهم البعض في الإكرام والاحترام يؤدي حسن الضيافة إلي العطاء والمشاركة وهما من أفعال المحبة المسيحية الحقيقية النابعة من نور الكلمة الذي يجمع. وإلي جانب نجاح العلاقات الإنسانية يؤسس حسن الضيافة بناء العلاقات الروحية إذ يعبر التواصل من الجسد إلي الروح فيبني الصلة الأخوية التي يشدد عليها بولس الرسول بقوله: أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح, فلما كان هناك خبز واحد, فنحن علي كثرتنا جسد واحد, لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد (1قور 10/16 – 17).
4ـ عرفاه عند كسر الخبز:
كسر الخبز هي الحركة التي يعرف فيها يسوع القائم من الموت. لم يكن التلميذان يعرفانه بعد لأن أعينهما كانت ممسوكة عن كشف هويته, فهما لايزالان غائصين في عالمهما وقراءتهما الخاصة للأمور. لكن عند كسر الخبز, العلامة الفارقة ليسوع, اتقد القلب أكثر فأكثر, تواري يسوع عن أعينهما ليمكث في داخلهما. لقد جهز القلب بأنوار الكلمة وامتلأ من حضور يسوع الجديد, لذا اتقد فرحا واندهاشا.
ونحن اقتداء بالتلميذين نكتشف حضور الرب في قلوبنا من خلال الصلاة والمشاركة القربانية, من خلال الحوار مع الضيف القريب والغريب, ومن خلال التزامنا وتمسكنا بشئون الرب والعمل بحسب إرادته فنهتم فيما هو له ونحن نحيا فيما هو للإنسان.
إذا سيطرت الضبابية لا نعود نفهم ولا نعود نعرف فندخل في العزلة والانغلاق في عالمنا الصغير ونذهب نزولا فنهبط إلي الانحطاط. أما عندما تتضح الحقيقة ونعي حضورها فإننا ننتعش وتعود إلينا الحيوية للنشاط واللجوء إلي الجماعة لبناء علاقات جديدة ومشاركة حقيقية.
5ـ العودة إلي أورشليم:
اتقاد القلب يقود إلي الشركة الأخوية. عاد التلميذان إلي أورشليم وحضرا في الجماعة الملتئمة في العلية, والكل يخبر عن لقائه الخاص بالقائم من الموت لا خبرة للقيامة إلا في الكنيسة, لقد خرج التلميذان من عزلتهما والتحقا بالإخوة وتفجر اتقاد قلبيهما مع قلوب الإخوة للمشاركة في الفرح لأن الخبر الذي يحملون هو خبر مفرح, والحماس الذي يجتمعون فيه يتفاعل فيما بينهم, والإصغاء بكل احترام بعضهم لبعض يزيد الحقيقة وضوحا لينطلقوا من جديد.
تعلمنا خبرة تلميذي عماوس واتقاد القلب الدروس التالية:
1ـ العبور من المحنة يتطلب المرور بأربعة لقاءات:
لقاء الدوامة مع الذات فيه نعيش قراءة ضيقة للأمور محصورة بحالنا المكسورة.
لقاء فكري الذي ينير المنطق بكلمة الله ويقوي المعرفة.
لقاء الخبرة الذي يلمس الداخل ويحرك الهمة والنشاط.
لقاء الشراكة الذي يشجع بالفرح للانطلاق من جديد.
2ـ الانفتاح علي الآخر يوسع الآفاق لإعادة قراءة ظروف حياتنا والإفادة من الفرص التي يقدمها لنا الرب لنذهب بالاتجاه الذي يريده هو. لقاء التلميذين مع الغريب وانفتاحهما علي الحقائق التي عرضها لهما جعلهما يصلان إلي اللقاء مع يسوع القائم.
3ـ لا تكفي المعرفة الفكرية والمنطقية حتي يتشجع الإنسان إنما يحتاج إلي الخبرة المباشرة التي تلمس العمق حتي نعيش فيه الحيوية والحماس. وهذا ما نعيشه نحن في كل قداس الذي فيه نلتقي مباشرة بيسوع القائم فيرسلنا لنشهد له.
4ـ الشركة الأخوية في القيامة تدخلنا في البعد الكنسي وتجسد القيامة في حياتنا. فالكنيسة هي جماعة المؤمنين الذين التقوا بالرب, يجتمعون ليشاركوا خبرة حضوره ليحملوه في قلوبهم ويكونوا رسلا يعطون الفرص لإخوتهم حتي يلتقوا هم بنفسهم فيه وتتجدد حياتهم. بهذا نكتسب رسالة الشهادة للقائم لأنه حقا قام.