بينما كنت مشغولا بالسؤال: “كيف ننقل ميراث الإيمان الذي ورثناه عن الآباء إلى الأبناء؟”، قرأت مجددًا القصة المثيرة الموجودة في سفر الملوك الثاني إصحاح٢٠.. لقد مَرِض الملك حزقيا وأوشك على الموت، وجاءه النبي وقال له أن يكتب وصيته لأهله. فصلى بحرارة إلى الرب، وبكى بدموع غزيرة حتى يشفيه فلا يموت. فعاد إليه النبي بالخبر السار: «الرب قد سمع صلاتك، ورأى دموعك، وسيشفيك ويطيل عمرك خمس عشرة سنة». وأعطى الرب لحزقيّا علامة لتؤكد له أنه سيشفيه: “سيتراجع الظل عشر درجات فوق السُلم بعد أن كان قد امتد عليها إلى الأمام!” وحدث ما قاله الله، وشُفي الملك. وعندما سمع ملك بابل بمرض حزقيّا وشفائه؛ أرسل إليه وفدًا يحمل رسائل وهدايا؛ ففرح بها جدًا، واحتفى بالرجال البابليين، وأراهم كل ما يحتفظ به من أشياء ثمينة في خزائن قصره، وأطلعهم على مخازن أسلحته، ولم يترك شيئا في كل مملكته إلا وأراهم إياه. تُرى هل كان هذا كبرياء من الملك الذي أطال الله عمره استثناءً؟ هذا ما يظنه أغلب المفسرين. أو ربما أراد أن يُبهر البابليين بممتلكاته؛ ظنًا منه أن هذا سيقيه شر عداوتهم في المستقبل، بدلاً من أن يضع ثقته في الله. على أية حال، لم يُرض هذا التصرف الرب؛ فأرسل إليه النبي إشعياء مرة أخرى ليخبره أنه ستأتي أيام يُنقل فيها كل ما في قصره، وما ادخره آباؤه إلى بابل، كما سيُسبى أحفاده ليعملوا في خدمة ملك بابل في قصره. وعندما سمع حزقيّا ما قاله الرب عما سيحل من عقاب وويلات على الأجيال التي ستأتي من بعده، أجاب على النبي قائلاً: «أقبل حكم الرب الذي أعلنته لي!» ثم أضاف ببرود عجيب: «مادام لي سلام وأمن في أيامي!»
وقد أدهشني رد فعل الملك حزقيّا وكأني أقرأه لأول مرة، وتمنيت لو أنه كان قد صارع مع الله لكي يحفظ أبناءه وأحفاده من المصير الذي كان ينتظرهم، كما صلى لكي يُطيل من عمره، لكنه لم يفعل؛ فكل ما كان يهمه هو نفسه.. ”فليحدث ما يحدث طالما أنه لن يحدث في أيامي!“ تُرى هل يختلف موقفنا نحن اليوم، عن هذا الموقف الأناني للملك حزقيا، تجاه ما يمكن أن يحدث لأبنائنا في المستقبل إذا ابتعدوا عن الإيمان؟
أرجو ألا يكون غائبًا عن أذهاننا أننا كعائلات نواجه اليوم خطر عدم الاهتمام بنقل الإيمان المسيحي للجيل المقبل. وربما من أكثر العوامل التي تقاوم محاولاتنا أن ننقل لأبنائنا إيمانًا نابضًا بالحياة، يعكس ما تعلِّمه الكلمة المقدسة عن مبادىء الملكوت، هو كثافة ما يتعرضون له من فلسفة وتوجهات العالم الحديث؛ بالإضافة إلى اتكالنا المبالغ فيه على البرامج التي تقدمها الكنيسة لتعليمهم أسس الإيمان..في إغفال لحقيقة أن العبء الأول للقيام بهذه المهمة المقدسة يقع على عاتق الأسرة قبل الكنيسة. ولكي نستطيع الوقوف ضد هذا التيار الخطير، علينا التوقف للتفكير الجاد في خمسة عوامل يمكن أن يكون لها التأثير الأكبر على توجهاتنا التربوية إن كنا نهتم بالمصير الأبدي لأبنائنا كأولوية قصوى لتنشئتهم.
(١) لابد أن يكون واضحًا في أذهاننا ما نتطلع لأن يكون عليه أبناؤنا في المستقبل.. هل نريدهم أشخاصًا ناجحين، وأغنياء، وذوي مراكز مرموقة، بغض النظر عن علاقتهم الاختبارية مع يسوع المسيح؟
(٢) هل نحن على استعداد أن نبذل الجهد لنعبر بالمعرفة أكبر مسافة ممكنةفي الفجوة الفكرية بين الأجيال، حتى نفهم ما يعايشونه من تحديات معاصرة، ونقترب من عالمهم بالحوار الأبوي؟ بهذا نتبادل معهم الأفكار والمشاعر التي تُتيح لهم ولنا فرصًا متجددة لمشاركة اختبارات إيماننا، ولو اختلفت في طبيعتها وأسلوبها.
(٣) نحن بحاجة للتدرب على تمييز أفضل الأوقات اليومية التي يكون فيها الأبناء على استعداد لاستيعاب ما نعلِّمه إياهم عن أسس الإيمان، وما أخذناه عن الآباء من ميراث روحي. وأفضل ما يمكن أن نرجع إليه في كلمة الله عن تلك الأوقاتهو ما نقرأه في سفر التثنية: «لتكن هذه الكلمات التى أنا آمرك بها اليوم في قلوبكم (لها الأولوية المطلقة)، افرضوها على (حدثوا بها) بنيكم، وكلموهم بها إذا جلستم في بيوتكم، وإذا مشيتم في الطريق، وإذا نمتم، وإذا قمتم، واجعلوها وشمًا (علامة) على أيديكم، وعصائب بين عيونكم.. واكتبوها على قوائم أبواب بيوتكم، وعلى مداخل مدنكم» (تثنية ٦: ٦- ٩ الترجمة العربية المشتركة).
(٤) لابد أن يأخذ الآباء دورهم في قيادة الأسرة، مدركين أنهم “الترموستات”الروحي للأسرة، وأن الوصية الكتابية تلزمهم بمسؤولية تدريب الأبناء ليكبروا فيخوف الرب ومعرفة الكلمة المقدسة. وبالمناسبة قد يخلط البعض بين عمل”الترمومتر” و”الترموستات”.. فالأول يقيس درجة الحراة، أما الثاني فيعدلها لتكون مناسبة لنوعية الاحتياج إليها.. وهذا وصف دقيق لدور الأب في التربية؛ فهو لا يشخص المشكلة فقط، بل ويجد الحل لها.
(٥) تعليم الأبناء أسس الإيمان، سواء في الأسرة أو الكنيسة، لا يعني حشو عقولهم بمعلومات دينية يرددونها بدون فهم جوهرها، أو يجادلون بها زملاءهم منعقائد الكنائس الأخرى.. التعليم الصحيح هو ما يعدهم ليستطيعوا أن يفكروا فيما يـؤمنون به، ليس فقط للدفاع عنه في مواجهة فكر العالم الذي يناقضه، بل ليروا علاقة الله بكل ما يحدث في الحياة. تنشئة أبناء واثقين من إيمانهم بالرب، ولهم الاشتياق الصادق أن يمجدوه في حياتهم وبمستقبلهم، أمر لا يحدث تلقائيًا؛ لكنه يتحقق من خلال أسرة تربي بإصرار واعٍ يربط حقائق الإيمان بالحياة اليومية.. ”إنني أؤمن بالمسيحية بقدر يقيني أن الشمس ستشرق مرة أخرى غدًا؛ ليس فقط لأني أراها، لكن لأني بها أرى كل شيء آخر.“ (سي. إس. لويس)